كانت في شتى مناطق الجزيرة العربية قبائل ومستوطنات صغيرة كونت فيما بينها وحدة سياسية حتى تشكلت أنظمة سياسية مدنية أو قبلية، ثم مع مرور الوقت تقدمت وتطورت حتى برزت هذه الوحدات القبلية كدويلات مدنية مستقلة، أكثرها كانت قائمة في أرض الحجاز.
كانت من أشهر هذه الدول المدنية وأقدمها دولة مكة المكرمة، حيث كوّن فيها قصي بن كلاب أحد أجداد رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم نظاما سياسيًا وإداريًا عام أربعة وأربعين بعد الميلاد، وسادت قبله بنو خزاعة وبنو جرهم وبنو إسماعيل. وكانت الطائف ويثرب وخيبر أيضا من هذه الدويلات المدنية في هذا الشريط العربي، وكلها كانت قائمة على أسس تجارية وزراعية متينة، وكانت بها هياكل سياسية واقتصادية تشكل نظامها وإدارتها، ومن أهم مزاياها الخاصة أنها كانت دويلات وإمارات حرة مطلقة عن سيطرة الدول الكبيرة سياسيةً وحضاريةً واجتماعيةً ودينيةً واقتصاديةً، فلا تتأثر بتغيرات سياسية ومدنية تقع في الدول الكبيرة. أما السيادة بها فكانت مفوضة إلى أهلها، لم يقبلوا غطرسة غيرهم ولا سيطرتهم في أنظمتهم، فقد سادت الرومان العالم بأسره، لكنها لم تسد على العرب، وحملتهم الشهيرة التي جردوها من مصر عام الرابع وعشرين قبل الميلاد، يرأسها والي مصر إيليوس غالوس، وقد تألفت هذه الحملة من جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل يناصرهم أحلافهم الأنباط، وذلك في ملك أوغسطس قيصر، وكان غرضهم الاستيلاء على طرق النق التي احتكرها عرب الجنوب واستغلال مرافق اليمن ومواردها لمصلحة روما، ولقد هزمت العرب هذه الحملة من السويس تؤازرها قوات الأسطول البحري، وكان دليلها قائد من الأنباط. 1 فقد احتفظت الحضارة العربية في أرض الحجاز بسبب أنها محفوظة من النفوذ السياسي الخارجي، ولذلك كانت الحكومات القائمة فيها تختلف عما كانت في العالم الخارجي حيث غلبت عليها الآثار القبلية، ونذكر بعض دويلات مدنية حجازية فيما يلي.
أول دولة من دول الحجاز المدنية قامت بمكة المكرمة تحت رئاسة سيدنا إسماعيل عليه السلام بعد ما أسكنه بها إبراهيم عليه السلام مع أمه هاجر، وقال: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ 2 فنشأ إسماعيل عليه السلام وترعرع حتى نزلت بمكة قبيلة جرهم، فشبّ إسماعيل بينهم وتعلم اللغة العربية منهم، وأعجبوا به كثيرا، وتزوج امرأة منهم وهي الحنفاء بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، فولدت له اثني عشر ذكرا. 3 فتشكلت بعد زمن يسير كقرية قبلية، أكثر سكانها أخواله الجرهميون، وقد أرسله اللّٰه تعالى إلى أخواله من جرهم وإلى العماليق الذين كانوا بأرض الحجاز، فبعضهم آمن، وبعضهم كفر. 4
لما توفي إسماعيل عليه السلام انتقلت السيادة إلى ولده، وهم كانوا اثني عشر ذكرا، وأمهم السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي. وهم نابت بن إسماعيل، وقيدر بن إسماعيل، وأدبيل بن إسماعيل، ومبشا بن إسماعيل، ومسمع بن إسماعيل، ودما بن إسماعيل، وماس بن إسماعيل، وأدد بن إسماعيل، ووطورا بن إسماعيل، ونفيس بن إسماعيل، وطما بن إسماعيل، وقيدمان بن إسماعيل. 5 وذكرهم المسعودي أن أسماءهم نابت وقيدار وأدبيل ومبسم ومشمع ودوما ودوام ومسا وحداد وثيما ويطور ونافش. 6 وقال علي رضي اللّٰه عنه: ولد إسماعيل اثني عشر رجلًا، وأمهم بنت الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي، فأكبر أولاد إسماعيل نابت وقيدر. 7 فقد وقع الاختلاف في أسمائهم، لكن ليس هناك اختلاف في أكبرهم بأنه نابت، وكأنه هو وقيدر يتقاربان سنا. فلما عمر إسماعيل عليه السلام مئة وثلاثين عامًا، فتولى البيت بعده نابت بن إسماعيل، ونشر اللّٰه العرب من نابت وقيدار فكثروا ونموا، واستمرت سيادة مكة وإدارة نظامها بيد بني إسماعيل عليه السلام. 8
كان أهل مكة يومئذ بني إسماعيل وبني نابت مع جدهم مضاض بن عمرو، وأخوالهم من جرهم، وقطوراء. 9 فكانوا في رغد عيش، لم تقع بينهم مجادلة ولا مخاصمة في السيادة والرئاسة، فإنهم كانوا بني أخوال فيما بينهم، ثم مات نابت، ولم يكن ولد إسماعيل، فغلبت جرهم على ولاية البيت. 10
جرهم كانت قبيلة قحطانية، تنتمي إلى قحطان، وهم بنو عم يعرب، وهو ابن عابر بن سبأ بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. 11 أصلهم كان من اليمن، وعندما كان إسماعيل مع أمه عليهما السلام بمكة فمرت رفقة أو أهل بيت من جرهم فنزلوا بها. 12
كانت معهم بنو قطوراء، يسمون بني قبطون، وهم أيضا قد نزلوا مكة، فاقتسموا مكة نصفين. 13 فنزلت جرهم أعلى مكة، ونزلت بنو قبطون أسفلها في موضع قعقيعان وأجياد. 14 فكان حوز جرهم وجه الكعبة إلى الركن الأسود والمقام وموضع زمزم، مصعدا يمينا وشمالا وقعيقعان إلى أعلى الوادي. وكان حوز قطورا المسفلة ظهر الكعبة الركن اليماني والغربي وأجيادين والثنية والمسفلة. 15 وكان على جرهم يومئذ مضاض وعلى قطوراء السميدع، وكان مضاض يعشر من دخل مكة من أعلاها، والسميدع من أسفلها. 16 فكان نابت ولي سدانة البيت بعد أبيه إسماعيل عليه السلام، فلما هلك نابت كان ولده أطفالا فتولى السدانة أخواله من جرهم، وكان أول من ولي ذلك منهم مضاض بن عمرو بن غالب الجرهمي، ثم بنوه بعده كابرًا عن كابر، فمن ثم صارت جرهم ولاة الحرم. 17 لا ينازعهم ولد إسماعيل في ذلك؛ لخؤولتهم وقرابتهم، وإعظامًا للحرمة أن يكون بها بغي أو قتال، ولكن بعد زمن يسير نازعتهم قطوراء في أمر الملك، فافترق أمر قطورا وجرهم وتنافسوا الملك واقتتلوا، وقام بنو إسماعيل إلى جنب جرهم، وهو أول قتال أو بغي وقع في أرض مكة المكرمة بعد بناء البيت بين المضاض والسميدع، وكان سيد جرهم المضاض يومئذ، فغلبهم وقتل السميدع. 18
ساد المضاض كلتا القبيلتين وانتهى أمر بني قطورا من مكة المكرمة إلى يومنا هذا. فلما جمع إلى المضاض أمر مكة فصار ملكها له. 19 وكان أول من ولي من جرهم البيت مضاض، ثم وليته بعده بنوه كابرًا بعد كابر. واستمر ملك جرهم في مكة إلى زمن مديد حتى بغوا واستحلوا حرمتها، وظلموا أهلها، فطردوا وأخرجوا منها. 20
لما بغت جرهم بمكة وأكثرت فيها الفساد وألحدت بالمسجد الحرام حتى ذكر أن رجلا منهم، يقال له إساف بن بغي، وامرأة يقال لها نائلة بنت وائل، اجتمعا في الكعبة، فكان منه إليها الفاحشة، فمسخهما اللّٰه حجرين فنصبهما الناس قريبا من البيت؛ ليعتبروا بهما. فلما طال المطال بدأ المشركون يعبدونهما ويطوفون بهما. 21 وكان من إلحادهم وبغيهم بمكة أن ظلموا من يدخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، حتى إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يزني، ولم يجد مكانًا دخل البيت فزنى فيه. فأجمعت خزاعة لحربهم وإخراجهم من مكة، ففعلوا ذلك بعد أن سلط اللّٰه تعالى على جرهم دواب تشبه النغف، فهلك منهم كثير، وذهب من بقي إلى اليمن مع عمرو بن الحرث الجرهمي، آخر من ملك أمر مكة من جرهم، وحزنت جرهم على ما فارقوا من أمر مكة، وملكها حزنا شديدا. 22 فكانت ولاية البيت بعد نابت بن إسماعيل عليه السلام في جرهم نحو ثلاثمائة سنة. وقد قيل: خمسمائة سنة وستين سنة. وقيل: ستمائة سنة. 23 وبعد زوال ملكهم وسقوطه استولت خزاعة على مكة، واستمرت ولايتهم بعد بني إسماعيل وجرهم إلى عدة قرون.
كانت خزاعة من سكان سبأ، قبل استيلائهم على مكة، وعندما كانوا ساكنين بها تكهن كاهن بانفجار سد مأرب، وهلاك القرى والبوادي في سيل العرم، فخافت خزاعة وغادروا مساكنهم وهاجروا إلى أراضي مكة. فهم ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل اللّٰه عليهم سيل العرم. 24 فنزلوا في مر الظهران قريبا من مكة المكرمة، وأرادوا المقام مع جرهم، فمنعوهم واقتتلوا فغلبهم بنو خزاعة. 25 وما زالوا يتوارثون أمر البيت كابرًا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول الخزاعي، واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من ثلاثمائة سنة. وقيل: خمسمائة سنة، وكانوا قوم سوء في ولايتهم. 26
ثم شاع فيهم ماكا شائعا في جرهم من البغي والظلم والعدوان والفاحشة وغيرها من الأفعال الشنيعة، وكان في أشرافهم وأسيادهم عمرو بن لحي، خرج ذات يوم من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، رآهم يعبدون الأصنام. فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه. فأعطوه صنما، يقال له هبل، فقدم به مكة، فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه. 27 وتبعته العرب فيما أمرهم؛ فإنه سيدهم وكبيرهم، قد بلغ فيهم من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده، كأنه صار لهم ربا، لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة؛ لأنه كان يطعم الناس، ويكسوهم في الموسم، وريما نحر لهم في المواسم عشرة آلاف بدنة، وكسا عشرة آلاف حلة. 28 فاستبدلت خزاعة بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات. 29 وكانوا مشئومين في ولايتهم، وكان آخر من ملك منهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي. 30 قيل: استمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من خمسمائة سنة. وقيل: ثلاثمائة سنة. 31 واستقام بمكة أمر قريش بعد خزاعة.
خطب قصي إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبى، فعرف حليل نسبه، فزوجه ابنته، وحليل يومئذ يلي الكعبة وأمر مكة، وهو آخر ملوك خزاعة، فأقام قصي معه، وولدت له حبى أولاده. فلما انتشر ولده، وكثر ماله، وعظم شرفه، هلك حليل، وأوصى بولاية البيت لابنته حبى. فقالت: لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، فجعل ذلك لأخيها أبي غبشان بن حليل، وكان في عقله خلل، فاشترى قصي منه ولاية البيت بزق خمر وقعود، فأنكرت خزاعة ذلك، وكثر كلامها، وأجمعوا على حرب قصي وقريش، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، ثم إنهم تداعوا إلى الصلح وأن يحكموا رجلا من العرب، فحكموا يعمر بن عوف بن كعب المعروف بالشداخ فقضى بينهم بأن قصيًا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة. 32
كان قصي بن كلاب في زمن فيروز بن يزدجر. 33 وهو أول من أصاب ملكا من العرب من قريش بعد ولد إسماعيل، وذلك في زمن المنذر بن النعمان على الحيرة، والملك بهرام جور في الفرس، فقطع قصى مكة أرباعا، وبنى بها دار الندوة. 34 وليس بين فيروز بن يزدجر وبين المنذر بن النعمان وبهرام جور بون زماني حقيقي، فإن عهد بهرام جور يبتدئ من أربعمائة وعشرين إلى أربعمائة وخمس وثلاثين للميلاد، وخلفه يزدجر الثاني إلى سنة أربعمائة وسبع وخمسين للميلاد، وخلفه فيروز بن يزدجر إلى سنة أربعمائة وأربع وثمانين للميلاد. وعهد المنذر يبتدئ من اثنين وثلاثين وأربعمائة إلى ثلاث وسبعين وأربعمائة للميلاد. فقد عاصر قصي فيروز بن يزدجر في بداية عهده، وعاصر المنذر في نهاية عهده، واستمرت معاصرة المنذر له من واحد وثلاثين وأربعمائة إلى ثلاث وسبعين وأربعمائة للميلاد. وبناء على هذا نقول: إن عهد قصي على الأصح كان وسط القرن الخامس الميلادي. 35
كل من أقام بمكة ولاية وسيادة قبل قصي كان نظامها نظاما قبليا، مدارها على ولاية البيت، أما ولاية قصي فكانت نظاما سياسا وإداريا وحكوميا بمعنى الكلمة، وازدهرت في عهده حضارة مكة وثقافتها وبلغت إلى الغاية. وهذا هو العصر الذي سماه المؤرخون بالعصر الذهبي.
بعد أن تولى قصي حكم مكة بدأ في تنظيم شئونها، فأخذ يجمع ما تشتت من بطون قريش، ثم قسم مكة أرباعا بين قومه، وجعل لكل بطن حيا خاصا به قرب الكعبة، وما أقره قصي من نوع الحكم وإن يكن حضري الطابع في مظهره، فإنما هو في جوهره تنظيم قبلي، تكيف تكيفا خاصا بحسب ظروف الاستقرار، وبحسب علاقات قريش التجارية الواسعة، واتصالها بالعالم المتحضر. 36 وجعل نظامها نظاما سياسيا مدنيا، بيته كان مركزا أو مقرا رسميا، يجتمع فيه الملأ الأعلى، ويتشاورون في الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحربية، وهو موضع الاستشارات والقرارات، وكان حكم قصي سلطانا وقوله برهانا، وكان له من مظاهر الرئاسة والتشريف ما يلي:
كان كل ذلك لقصي، فلما طال عمره أوصى لابنه عبد الدار بما كان يليه من مصالح قريش، فأعطاه دار الندوة والحجابة واللواء والسقاية والرفادة. 37
أما الدار التي بناها قصي لنفسه، والتي جعل بابها يؤدي إلى الكعبة، أصبح مقرا يجتمع فيه سادة قريش وزعماء بطونها ووجوههم، وقد سمي هذا المقر باسم "دار الندوة"، فيها يجتمع قصي بوجهاء بطون قريش، ويتشاور معهم في الأمور العامة، ولم يكن هنالك من أمر يهم قريشا إلا ويحل فيها. ففيها كان يعقد لواء الحرب، إذا أقدمت قريش على حرب. وفيها يتم تجهيز القوافل وتستعد للرحيل. وفي فنائها تحط عند عودتها محملة بالبضائع، وحتى المسائل المدنية كانت تحل فيها، ولم يكن لأحد لم يبلغ سن الأربعين -عدا بني قصي وحلفائهم من رؤساء العشائر، أو من كان مفوها ذا رأي ومشورة وحكمة- أن يشترك في مجلس دار الندوة، أما قرارات مجلس دار الندوة، تلك التي لم تكن تتبع قانونا مدونا، بل كان للتقاليد والأعراف القبلية شأن عظيم في إصدارها، فلم تكن ملزمة لجميع البطون إلا إذا وافقت عليها بالإجماع، والبطون كانت تشذ عن تنفيذها، إذا لم تكن موافقة لمزاجها. 38
أما التنظيم الإداري في مكة فقد كان متصفا بكونه قد استند على الأسس الأرستقراطية، تولى فيه المهام كبار التجار وأصحاب القوافل التجارية، وبكونه قد جمع بين الإدارة والسياسة والتجارة والدين والحرب. وقد تقاسمت بطون قريش المناصب ذات الصلة بهذه الأمور بما يشبه حكم الشورى من بعض الوجوه، وتولتها شخصيات بارزة من كل بطن. أما هذه المناصب التي استمر وجودها حتى ظهور الإسلام فهي السدانة والسقاية والرفادة والراية والقيادة والأشناق (الديات) والقبة والأعنة والسفارة والإيسار والمشورة والأموال والمحجرة ودار الندوة. 39
كانت يثرب من مدن الحجاز المهمة الواقعة على سهل مرتفع، وعلى بعد يقارب خمسمائة كيلومترا شمال مكة. وفي الشمال منها يقع جبل أحد ثم جبل سلع، بينما يقع في جنوبها الغربي جبل عير. وإلى الغرب منها تنحدر الأرض انحدارا سريعا نحو ساحل البحر الأحمر، الذي يبعد عنها أكثر من بعده عن مكة، وهي من المحطات التجارية التي كانت القوافل تقضي بعض الوقت فيها. كان اسمها القديم يثرب، وقد عرفت به في الكتابات المعينية القديمة، وهذا دليل على قدمها، كما أنه دليل على أن علاقات ما كانت تربطها بالدولة المعينية. 40 وقد عرفت قديما بيثربة في جغرافيا بطليموس. 41
أما تاريخ يثرب فإن الغموض يكتنفه من جميع جوانبه، ولا يستطيع المؤرخ أن يثق بما أورده المؤرخون العرب عن تاريخها فيما قبل القرن الأول الذي سبق ظهور الإسلام، بينما يمكن تتبع أخبارها منذ بداية القرن السادس الميلادي؛ لقرب هذه الفترة من حوادث السيرة النبوية على صاحبها آلاف التحيات والتسليمات. فأول ما تذكره الروايات القديمة أنها واحة، كان العمالقة أول من سكنوها، ثم تغلبت عليها بعض القبائل اليهودية واستقرت إلى جانبهم، والمعلومات عن هجرة اليهود إلى يثرب غامضة. فقد شك بعض المؤرخين في كون القبائل اليهودية في يثرب يهودية الأصل حقًا، أو في أنها جاءت من خارج الجزيرة العربية. فذهب البعض إلى أنهم سكان الجزيرة ثم تهودوا، غير أن الذي عليه عامة المؤرخين أنهم قدموا من خارج الجزيرة العربية، وأنهم يهود في الأصل، وأن أسماءهم وإن كانت عربيةً إلا أن أسماء آبائهم وجدودهم عبرية، وقد أتوا إليها -على أغلب الظن- متفرقين خلال فترات متفاوتة، لكنهم تكاثروا فيما بعد في غربيها وجنوبيها، وعلى الطريق المؤدية منها إلى الشام، وقد احتكوا بالعرب المقيمين في المدينة، وتحدثوا باللغة العربية، وقال بعضهم الشعر بها، وتسموا بالأسماء العربية، وتأثروا بنظم العرب الاجتماعية وبتقاليدهم وعاداتهم، أو بالأحرى اندمجوا فيها اندماجا ظاهريا. 42
ما زال هذا شأنهم حتى قدمت إلى يثرب قبائل عربية هجرت الجنوب اليمني لأسباب اقتصادية سيئة، من تدني مستوى النشاط الزراعي والتجاري، ولأسباب سياسية من تنازع أقيال اليمن بعضهم مع بعض، ومن إلحاح الأحباش على غزو اليمن، وكانت هجرتهم إلى الحجاز بعامة، وإلى المدينة بخاصة متقطعة. وأشهر هذه القبائل الأوس والخزرج من الأزد، وينسبها النسابون إلى عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء. ومن الصعب تحديد الفترة التي جرت فيها هذه الهجرة، فقد تكون -بحسب استنتاجات المؤرخين المحدثين- في أواخر القرن الرابع الميلادي. وقد قامت بين العرب القادمين وبين اليهود علاقات طيبة في أول الأمر، إذ لم يكن عدد القادمين مما يخيف اليهود. ووجد العرب أن الأموال والآطام والعدد والقوة بيد اليهود، فقنعوا مضطرين بسماح اليهود لهم بمجاورتهم، ثم عقد الطرفان فيما بينهم حلف جوار يأمن به بعضهم من بعض، فأتاح هذا الحلف للعرب أن يتعاملوا مع اليهود، وأن يعملوا معهم جنبا لجنب في الزراعة والتجارة، فأثروا وازداد عددهم، وراحوا ينظمون أنفسهم، فلم يلبث اليهود أن نقضوا العهد الذي يربطهم بهم؛ إذ رأوا فيهم خطرًا يهدد مصالحهم ومستقبلهم، وخافوا أن تزداد قوة العرب، ويشتد ساعدهم، فيهددوا نفوذ اليهود، فأخذوا للأمر عدته، وعادوا إلى سلوك سياسة الاستبداد، وناوؤوا الأوس والخزرج، وحاولوا تقليم أظافرهم. عندئذ ظهرت الفتن والعداوات بين الطرفين، ولما أدرك العرب أن لا قبل لهم بمجابهة اليهود، إذ كانوا أكثر عددًا وأقوى استعدادًا، أقاموا في منازلهم، وخافوا أن يجليهم اليهود عن المدينة، ثم اتصلوا بأبناء عمهم الغساسنة في الشام. وكان زعيم العرب في يثرب آنذاك مالك بن العجلان من الخزرج، فأتاهم أمير من غسان يسمى أبو جبيلة بقوة كبيرة، فأعمل الحيلة في استدراج زعماء اليهود، وفتك بهم فضعف بذلك نفوذ اليهود، وتقلص عن الحياة السياسية والاجتماعية في يثرب؛ ليقوى نفوذ الأوس والخزرج بالمقابل، غير أن اليهود بدؤوا من ذلك الحين يحاربون القبيلتين حربا خفية، بالدس والوقيعة بينهما، وقد استغلوا ما بينهما من تنافس انقلب بعدئذ إلى عداوة؛ ذلك أن أسبابا عديدة قد حملت القبيلتين على التنازع، منها ما هو سياسي، ومنها ما هو اقتصادي، فعمل اليهود على تشجيع عوامل الفرقة، وإذكاء روح التحاسد بين القبيلتين؛ لكي يضعفوهما. وما زالوا كذلك حتى حملوا القبيلتين على الاصطدام، فاحتربتا حروبا لم تنته إلا قبيل قدوم الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة، وكانت كل من القبيلتين تتحالف مع بعض القبائل العربية الأخرى، من خارج المدينة، أو حتى مع قبيلة أو أخرى من قبائل اليهود في المدينة؛ إذ كان التناقض والتنافس فيما بين هذه القبائل لا يقل عما كان من تنافس وتنازع فيما بين الأوس والخزرج. وكل قبيلة ترمي من وراء عقد المحالفات إلى تقوية نفسها، وضمان النصر على منافستها. وقد حالفت الخزرج بني قينقاع، بينما تحالفت الأوس مع بني قريظة. وأشهر الحروب التي وقعت بين الطرفين هي المعروفة بيوم سمير ويوم السرارة ويوم حاطب ويوم بعاث، وكان النصر فيها سجالًا بين الأوس والخزرج. وعلى العموم فإن يوم بعاث قد أضعف جميع قبائل وبطون العرب في يثرب، فاشتد ميلهم إلى الاتحاد، واستجاب كل من الطرفين لداعي الوفاق، وكان أحد زعماء الخزرج وهو عبد اللّٰه بن أبي بن سلول قد وقف موقفا حياديا من الحرب، فاتجهت إليه الأنظار كي يكون واسطة للتجميع وحل النزاع، واتفق الجميع على تتويجه ملكا على المدينة، ولم يمنع من تحقيق ذلك سوى قدوم الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا، فحقق من وحدة العرب جميعا ما عجز عنه العرب من قبل. 43
كان النظام السائد في يثرب نظاما قبليا تربطهم وحدة القبيلة، يتفاخرون بنسبهم ويتعارفون به، أما النسبة المدنية فقد كانت بعد النسبة القبلية، والتنظيم السياسي كان فوضيًا بسبب وجود اليهود في هذه المنطقة والبغضاء بين القبائل العربية والحرب التي حاربوها خفية، فالعرب في هذه الحرب كانوا أهل قوة وشدة بما كانت لهم علاقات وقرابات بالغساسنة، ولكن لم يكن ما حازت اليهود من المقاصد السياسية والاقتصادية من خلال الدس والوقيعة بينهم قليلًا.
كانت الطائف تسمى وجّا، بوج بن عبد الحي من العماليق. ذكر المؤرخون: كان رجل من الصدف، يقال له الدمون بن عبد الملك، قتل ابن عم له، يقال له: عمرو بحضرموت، ثم أقبل هاربا، فأتى مسعود بن معتب الثقفي، ومعه مال كثير، وكان تاجرا. فقال: أحالفكم؛ لتزوجوني وأزوجكم، وأبني لكم طوفا عليكم مثل الحائط لا يصل إليكم أحد من العرب. قالوا: فابن. فبنى بذلك المال طوفا عليهم، فسميت الطائف. 44 وكان من بلاد الطائف النخب، واد من الطائف على ساعة، وواد يقال له العرج، ولية، وجلدان، وتبعة، والشديق، والهدة، والفتق، وعظاظ، نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة -زادها اللّٰه شرفاً- ثلاث ليال، وبه كانت تقوم سوق العرب بالابتداء، وبه كانت أيام الفجار. 45
كانت الطائف تتمتع بمناخ بارد شتاءً، ربما تجمد المياه فيها خلاله، وبمعتدل صيفًا مما جعلها مصيفا لأهل مكة ولغيرهم من العرب، لا سيما وأنها واحة غنية بمياهها العذبة وتربتها الخصبة، وببساتينها وحدائقها التي تفيض بالفواكه والثمار. وكان للطائف عدا ذلك موقع تجاري ممتاز بوقوعها بالقرب من الأسواق التجارية الحجازية لا سيما سوق عكاظ. وكانت صلاتها متينة بأهل مكة الذين كان لهم فيها عقارات وأراض زراعية، كما كان أثرياؤهم يوظفون أموالهم في تجارة أهلها، وقد سكنت الطائف قبيلة ثقيف، التي أثرت من الزراعة والتجارة إثراء عظيما، وخشيت على ثروتها من غزو الطامعين من الأعراب الذين يقيمون حولها، ويهددون بغزوها بين حين وآخر، فبنت سورا طائفا حول المدينة يحميها من جميع جهاتها فسميت الطائف. 46
ذكر أهل الأخبار أن أول من ملك الطائف، عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر، فلما كثر بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد. وقد ورد في بعض الأخبار أن قوم ثمود هم الذين نزلوا بالطائف بعد العماليق، فأخذوها منهم، وذلك قبل ارتحالهم عنها إلى وادي القرى، بسبب منازعة القبائل لهم. وجاء في رواية أخرى أن أقدم سكان الطائف هم بنو مهلائيل بن قينان، وهم الذين عمروها وغرسوها وأحيوا مواتها، وقد سكنوها قبل الطوفان، فلما وقع الطوفان، كانوا في جملة من هلك فيه من الأمم الباغية، فخلت الطائف منهم، وسكنها بعدهم بنو هانئ بن هذلول بن هوذلة بن ثمود، فأعادوا بناءها وعمروها حتى جاءهم قوم من الأزد على عهد عمرو بن عامر، فأخرجوهم عنها، وأقاموا بها وأخذوا أماكنهم، ثم توالى عليها العرب حتى صارت في أيدي ثقيف. 47
إن أرض الحجاز التي صورها لنا التاريخ كمنطقة صحراوية بشعة مبتعدة عن العالم المتحضر المتمدن، لا علاقة لها بالحضارة والثقافة، كانت هي في الحقيقة مهد الحضارة والمدنية قبل آلاف السنين، وقد كانت بها دويلات مدنية مستقلة، منها دولة مكة، وهي أقدم الملكيات والإمارات التي أقامتها جرهم الأولى بعد الطوفان، ولما هلكت جرهم الأولى فهاجر إليها إبراهيم مع ابنه إسماعيل وزوجته هاجر عليهم السلام، وبنى بها البيت العتيق حتى استعمرت مكة مرة أخرى، وقامت بها إمارة إسماعيل عليه السلام، وهي أول إمارة قامت بها بعد بناء البيت، ثم قامت بها إمارات أخرى كإمارة بنيه وبني جرهم وبني خزاعة وقريش في عصور مختلفة واحدة تلو الأخرى، فتطورت مكة المكرمة في هذه العهود سياسيةً واقتصاديةً وحضاريةً. كما كانت يثرب والطائف من أهم المدن الحضارية والثقافية التي مثلتا دورًا بارزًا في تطوير هذه البلاد سياسيةً واقتصاديةً واجتماعيةً ومدنيةً وحضاريةً، وتثبت دراسة تاريخ الجزيرة العربية أهمية الحجاز التي كانت مسلمة لدي جميع الأمم والأقوام. ومن أكبر أسباب ذلك وجود الكعبة المشرفة التي تميزها من جميع البلاد حتى في العالم كله، بينما أصبحت يثرب قبل أربعة عشر مئة سنة مدينة النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، وما زالت هي مركزًا دينيًا مهمًا للمؤمنين والمسلمين في جميع العالم.