كان النوع الثالث من هذه التكوينات تشكله الملكيات أو الممالك التي قامت في جنوبي شبه الجزيرة، وقد كان الأساس الذي قامت عليه هذه الملكيات أكثر ثباتا واستقرارا، وأقل اعتمادًا على الظروف العارضة من الإمارات والمملكات الشمالية. 1 ولذلك لم يندرس وجودها عن وجه الأرض ولا عن صفحة التاريخ تماما كما انطمس واندثر وجود المملكات غير المستقرة التي قامت في شمالي شبه الجزيرة. وقد كان بين الجهتين الشمالية والجنوبية فرق جوي وطبيعي، فحيث ساد الإقليم الصحراوي، وشحت السماء بالغيث، وحل الجفاف قامت حياة البداوة والرعي التي لا تعرف الاستقرار كما في الشمال. وحيث سادت رطوبة الجو، وهطل الغيث قامت الحياة الزراعية المستقرة، وساعد القرب من البحار على قيام التجارة. وقد توفر قسط وافر من هذه الشروط في اليمن التي تطل على البحار من الجهتين الغربية والجنوبية، ولا يفصل بينها وبين البر الإفريقي سوى مضيق باب المندب. 2
عرفت هذه الممالك الجنوبية مساحات ممتدة من الأراضي الخصبة وقدرا كافيا ومنتظما من الأمطار الموسمية الغزيرة، وهكذا عرفت الأساس الاقتصادي الزراعي المستمر، بل لقد كان السكان لا يكتفون بالأراضي السهلية فيزرعون محصولاتهم على الأجلال أو المدرجات التي يسوونها على جوانب الجبال. 3 وقد استغل اليمنيون القدماء تشكل السيول من الأمطار، فأقاموا في شعاب الوديان سدودا وخزانات، حجزوا بها المياه واستفادوا منها وقت الجفاف. 4 فكانت الأراضي خصبة تنتج، ومن أهم المنتوجات اليمانية العطور والأفاويه والبخور التي كانت لها أهمية كبرى عند الناس في التاريخ القديم، فقد كانت تستعمل في المعابد والطقوس الدينية وللتحنيط. 5 وأدت زراعتهم إلى استقرار هذه الممالك الجنوبية في بلادهم واستقلالها مع حريتها دون أية سيطرة كما أدّت إلى استقرار وضعهم الاقتصادي.
أما الأساس الاقتصادي الآخر فهو التجارة، وهذه التجارة لم تكن مثل نظيرتها في الشمال مجرد تجارة عبورية تعتمد على بقاء الخطوط التجارية وتختل إذا أصاب هذه الخطوط أي تغيير أو تعديل في مسارها، وإنما هي تجارة أصلية. 6 فاضطلعوا بها بالنشاط نفسه الذي مارسوا فيه الزراعة؛ لوقوع بلادهم على شواطئ البحار التي تفصل بينها وبين الشرق الأقصى، لا سيما الهند التي اشتهرت بإنتاج التوابل والبهارات وغيرها من المواد التي كان الطلب عليها شديدا من الغرب الأوروبي. والأمر الذي جعل شبه جزيرة العرب -بموقعها المتوسط بين الشرق والغرب- بمثابة الجسر الذي تمر عليه هذه التجارة، وليس لمسالك التجارة العالمية مفر من اجتيازه كما جعلها في الوقت نفسه، ملتقى للتيارات الحضارية الآتية من شتى الجهات، فتفاعلت معها، وأنتجت بدورها حضارة ضربت في مضمار التقدم والازدهار شوطا مرموقا. فقد اتصلت بحضارة البنجاب في الهند عن طريق المحيط الهندي، وبحضارة بلاد الرافدين عن طريق الخليج العربي، وبالحضارة المصرية عن طريق وادي الحمامات الذي يصل الشاطئ الغربي للبحر الأحمر بالعاصمة المصرية القديمة "طيبة"، ولا ينكر ما كان للتجارة من فضل في ذلك. 7
هكذا كان لا بد من قدر من الاتفاق بين هذه الممالك جميعًا لا يمكن الاستغناء عنه، فكل منطقة تعتمد على الأخرى، هذه تنتج وتريد أن تسوق تجارتها، وتلك تمر القوافل من أرضها وتستفيد مما تجنيه من ذلك من رسوم وأجور على ما تقدمه من خدمات، وفي بعض الأحيان تجمع بين الموردين، الإنتاج والنقل وهكذا. ومن ثم كانت السيادة السياسية بين هذه الممالك تتعاصر أحيانا وتتتابع أحيانا، وتتفوق فيه مملكة على مملكة أخرى، أو تصل إحدى هذه الممالك إلى السيطرة على كل الممالك الباقية فيما يشبه الوحدة السياسية. 8 وهناك كثير من الآثار والأدلة التاريخية التي اكتشفت، وعثر عليها المؤرخون اليونانيون وغيرهم، تشير إلى أن الجزيرة العربية الجنوبية قامت بها ممالك أربعة في شتى الأزمنة. 9 ونذكر أسماءها وتفاصيلها فيما يلي:
ازدهرت مملكة معين في جوف اليمن بين نجران وحضرموت، فاستولت في أوج عزها على معظم الجنوب، بما فيه قتبان وحضرموت ومنطقة ملخ (ملخا في المدونات الإسفينية). 10 والمعينيون قد عاصروا السبئيين لفترة من الوقت؛ إذ قامت مملكتهم قبل سبعة قرون من الميلاد، واستمرت حتى القرن الثالث وكانت عاصمتهم هي قرناو، معين الحالية، في القسم الجنوبي من الجوف إلى الشمال الشرقي من صنعاء. 11 وهي أول مملكة قامت في جنوب الجزيرة العربية، ولا تزال آثارها تنكشف في الحفريات والأطلال.
أول من ذكر المعينيين من الكتاب الكلاسيكيين ديودورس الصقلي وسترابو، وقد سماهم معيني. وقال: إن مدينتهم العظمى هي قرنا. ويروى عن إيراتوستينس أن بلاد المعينيين كانت شمال بلاد سبأ وشمال أرض قتبان، وأما حضرموت فتقع شرق بلاد معين. ذكرهم بلينيوس أيضًا، وآخر من ذكرهم الجغرافي الشهير بطلميوس (Ptolemy). 12 وقال الزمخشري: إن معين مدينة باليمن. 13
كانت هذه المملكة ثرية بالينابيع والعيون، ولذلك سميت معينًا. ذكروا أنها سميت بمعين على لفظ المعين من الماء. 14 قيل: إن الكلمة العربية الأصلية معان حرفت إلى معين، ومعناها ماء ظاهر على وجه الأرض. 15 وقيل: معناها في اللغة ينبوع. وورد هذا اللفظ في اللغات السامية كالعبرية في صورة معيان، والذي يمكن تصحيفه بسهولة إلى معان، وهي بلدة في شمالي العرب إلى الآن. 16 قيل: يوجد في الجوف مكان يدعى معين. 17
اختلف المؤرخون والباحثون في منشأ دولة المعينيين، في بدايتهم ونهايتهم، فـ "كلاسر" مثلا يرى أن الأبجدية التي استعملها المعينيون في كتاباتهم ترجع إلى الألف الثانية أو الألف الثالثة قبل الميلاد، وهذا يعني أن تأريخ هذا الشعب يرجع إلى ما قبل هذا العهد، فالمعينيون على هذا هم أقدم عهدا من العبرانيين. ويعارض هذا الرأي "هاليفي" و"ميلر" و"موردتمن" و"ماير" و"شبرنكر" و"ليدزباسكي" وغيرهم، ويرون أن نظرية "كلاسر" هذه مبالغة، وأن مبدأ هذه الدولة لا يتجاوز الألف الأولى قبل المسيح بكثير. ويرى هومل أن من الممكن أن يكون مبدأ تاريخ دولة معين ما بين ألف ومئتي سنة إلى ألف وخمسمائة سنة قبل الميلاد. ونهاية حكومتها في عام سبع مائة. 18 فلهم في تاريخ بداية عهد معين آراء إلا أن كلها تتفق على أن عهد معين كان قبل سبأ، وعلى الأقل كان نهاية عهد معين يعاصر بداية عهد سبأ. 19
كانت معين مملكة زاهرة، أمة تاجرة، ممتدة واسعة، عاصمتها كانت القرن، والآثار تؤكد قرنا. وتذكر مدن أخرى غير قرن واقعة في حدود معين، منها، ميثيل، ونشق، وحريم، وكمنة، وبراقش. ولا تزال أطلال معين باقية إلى الآن، يظهر منها أن جميع حصون معين ومدنها كانت في صورة دائرة، وكانت معين نفسها في قلب سبأ على يمين الطريق الواقعة في شمالي مأرب. 20
كان من أهم الأسس الاقتصادية للمعينين التجارة والزراعة، كانت مملكة معين محطة مهمة، تقع على طريق تجاري تمر بين أفريقية وأوربا، وكانت بلدا غنيا بالمحاصيل التي تشكل مادة تجارية صالحة للتصدير مثل الطيب والمر والبخور والعطور، فقد كانت بلادا كثيرة الغابات والأغراس، كما كانت البضائع من أقمشة وسيوف وذهب وحرير وريش نعام مستوردة من الهند والصين تتكدس فيها، فتقوم بدور الوسيط التجاري بنقلها إلى الشمال وإلى الغرب عبر باب المندب، وقد احتكرت مقاليد التجارة بين الهند وحوض البحر المتوسط لمدة طويلة. 21 وكذا من الأسس الاقتصادية المهمة في المملكة المعينية الضرائب المفروضة على الفلاحين والتجار، وقد تعهد الحكام عادة بجمع الضرائب من أتباعهم ودفع حصة الحكومة مما يدفعونها إلى أصنامهم ومعابدهم، ولكل معبد كانت أراضي واسعة عريضة فرضت عليها الضريبة أيضا للحكومة. بالإضافة إلى ذلك تدفع الضرائب من الهدايا التي تقدم للآلهة المخصوصة أيضًا. 22 ويظهر من آثار معين الشمالية أنها لم تكن دولة تجارية فحسب، بل كانت تساهم في الحرب والفتح. 23
إن اللوحات والكتبات التي اكتشفت في الأطلال والأنقاض الأثرية القديمة تدلنا على بعض أسماء ملوك معين، وهذه هي قائمة أسمائهم:
هذه اثنان وعشرون اسمًا جمعت من نقوش القصور والمباني والأضرحة. 24 والظاهر أنهم ليسوا كل ملوك معين، بل هم جمهرة منهم.
تذكر أخبار العرب مدينة براقش إلى جانب معين، وكانت براقش واقعة في الجنوب الغربي لمعين، والجانب الغربي من السلسلة الجبلية قريبا من صنعاء الحديثة، وكان اسم براقش القديم ميثيل. 25 وقيل: إن براقش ومعين حصنان باليمن، كان بعض التبابعة أمر ببناء سلحين فبني في ثمانين عاما، وبني براقش ومعين بغسالة أيدي صناع سلحين. ولا ترى لسلحين أثرا، وهاتان قائمتان. 26 وكانت من مدن حكومة معين يثل، وهي من المراكز الدينية، وعرفت بـبراقش فيما بعد، وكانت قائمةً في أيام الهمداني، ووصف الهمداني الآثار والخرائب التي كانت بها. 27 ثم مع مرور الزمن ظهرت على مملكة معين آثار التدهور، وبدأ عهد انحطاطها، وفي الوقت نفسه برز قوم سبأ في منطقة سبأ، وسيطروا على مناطق تقع قريبة منهم حتى أصبحت مملكة معين كلها تحت سيطرتهم وغطرستهم. 28
سبأ كانت مملكة قديمة، ذات أهمية كبيرة في الممالك المستقلة التي قامت في جنوب الجزيرة العربية، في نفس الزمن الذي اتجهت فيه مملكة معين إلى الانحطاط، وسبأ شيدت حصونها حول حصون معين في كل جانب من اليمن، فبرزت مملكة عظيمة إلى حيز الوجود تحت حكم سبأ. وهو أول من تتوج من ملوك العرب، وأول من سبى، فسمي سبأ. 29 قامت مملكة سبأ الأولى جنوبي نجران، واتخذت صرواح، غربي مأرب، عاصمة لها بين عام سبعمائة وخمسين إلى عام ستمائة وعشر قبل الميلاد؛ لتتلوها مملكة سبأ الثانية التي اتخذت مأرب، ستين ميلا تقريبا شرقي صنعاء، عاصمة لها بين عام ستمائة وعشر إلى عام مئة وخمسة عشر قبل الميلاد. 30 كانت سبأ دولة ذات حضارة عريقة قامت باليمن، ورثت دولة معين. 31 وكانت هذه البلدة من أحسن بلاد اليمن، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، وهي إلى الجنوب الشرقي من صنعاء لم يكن يومئذ في بلاد العرب أعمر منها. 32
كانت سبأ قوما، لهم عز في الجاهلية، ورد ذكرهم في القرآن والتوراة والزبور والإنجيل والأساطير العملاقية الإغريقية والوثائق التاريخية كلها، ينتمون إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، 33 بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. 34 وهو أول من ملك من ولد قحطان. 35
اختلفت آراء العلماء والمؤرخين في سبب تسميتها بسبأ. قيل: سميت سبأ باسم بانيها، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، أول ملوك اليمن في قول. واسمه عبد شمس. 36 وقيل: اسم سبأ عامر. 37 وإنما لقب بسبأ؛ لأنه أول من سبى السبايا. 38
ويذهب الاكتشاف الحديث إلى أن أسبى وسبى مشتق من معنى التجارة، ووردت مادة سبأ في النقوش بمعنى الرحلة التجارية بصفة عامة، ويستعمل في اللغة العربية إلى الآن بمعنى تجارة الخمر وبيعه والرحلة له. كانت سبأ أمة تاجرةً فاشتهرت بهذا اللقب. 39 وكان يقال لسبأ الرائش؛ لأنه كان يعطي الناس الأموال من متاعه. 40 وقيل: لأنه أول من غنم في الغزو، فأعطى قومه فسمي الرائش، والعرب تسمي المال ريشا ورياشا. 41 روي عن فروة بن مسيك رضي اللّٰه عنه قال في وراية طويلة: قلت: يا رسول اللّٰه، أرأيت سبأ، واد هو أو جبل أو ما هو؟ قال صلى اللّٰه عليه وسلم: (( لا، بل هو رجل من العرب، ولد له عشرة؛ فتيامن ستة، وتشاءم أربعة، تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار، الذين يقال لهم بجيلة وخثعم، وتشاءم لخم وجذام وعاملة وغسان )). 42 فسبأ كان اسم رجل، انتمى إليه قوم سمي باسمه، ثم سميت بلدة سكنوا فيها، وأقاموا مملكة سميت باسمه أيضًا.
قيل: كان في نسب سبأ هود النبي عليه السلام، وفيهم بعث. 43 ولذلك صرح بعض العلماء على أن قوم سبأ كانوا في الأوائل أمة مؤمنة باللّٰه وحده، معتزلة عن الشرك والوثنية. روي أن ابن دحية الكلبي وابن كثير وغيرهم من الأئمة ذهبوا إلى أن سبأ بنفسه كان مسلمًا. وذكروا أنه بشر برسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم في زمانه المتقدم. وقال في ذلك شعرا:
سيملك بعدنا ملكا عظيماثم أشركوا باللّٰه فيما بعد، وتعبدوا الشمس، وقد أخبر القرآن عن ذلك بلسان هدهد حيث قال: وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ 24 45 وقد جاء في ترجوم الذي هو ترجمة للتوراة والنبييم باللغة الآرامية أن الملكة وهي بلقيس تخرج لعبادة الشمس. ويكتب المؤرخ اليوناني ثيوفراستينس (1312قبل الميلاد)، وكان قبل الإسلام بتسعة قرون ومعاصرا لسبأ في ذكر البخور: هذه البلاد لسبأ التي تحفظ بضائع البخور حفظا كبيرا، وتحمل أكوام هذه البخور إلى كنيسة الشمس التي تقدسها، واشتهر مؤسس دولة سبأ بلقب عبد شمس. والاكتشافات الأثرية جعلت هذه القضية أظهر من الشمس، فقد قرأ المسلمون في القرن الثاني أو الثالث الهجري نقشا على مبنى مكتوبا باللغة الجنوبية (أي: الحميرية): بسم اللّٰه هذا ما بناه شمر يرعش لسيدة الشمس. ما يدل على أن الشرك كان منتشرًا في سبأ إلى زمن بلقيس. 46 ثم دعاها سليمان عليه السلام إلى الإسلام فأسلمت هي ومن معها من قومها وقالت: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 44 47 ثم بعد زمان تمردوا في الطغيان والعصيان حتى ضلوا وأضلوا فأهلكهم اللّٰه تعالى بسيل العرم.
حسب النقوش والكتابات الأثرية فإن لسبأ طبقتين، الطبقة الأولى من ملوك سبأ يلقبون بمكارب سبأ، وكانت عاصمتهم أو حصنهم آنذاك صرواح. يبدو أن مكارب مركب من كلمتين، مكا ورب، ومعنى مكا الديني، والرب يطلق على الكبير والملك، فيكون معنى مكارب الملك الديني أو الملك الكاهن. وكان مكارب سبأ لقبًا للملوك الكهنة في بداية عهد دولة سبأ، وصرواح التي كانت عاصمة لهؤلاء الملوك الكهنة لا تزال آثارها باقية بين مأرب وصنعاء. 48 وذكر بعض أهل الأخبار أن صرواح حصن باليمن أمر سليمان عليه السلام الجن فبنوه لبلقيس. 49 وما زالت تتواجد أطلاله وأنقاضه في واكفة، منطقة بين مأرب وصنعاء، واشتهرت بالخربة والخريبة. ويبتدئ عهد مكارب سبأ في ضوء الألواح منذ تسعمائة سنة قبل الميلاد. وفي ضوء شهادة الزبور منذ ألف سنة قبل الميلاد، ولكنه يبدأ من سنة ألف ومئتين قبل الميلاد احتياطاً، وينتهي سنة خمسمائة وخمسين قبل الميلاد، وينبغي أن يكون عدد الملوك خلال ثلاثمائة وخمسين سنة -حسب النقوش– أو أربعمائة وخمسين سنة على الأحوط كبيرا. 50 وأسماء ملوك مكارب تالية.
أما الطبقة الثانية فكانوا ملوك سبأ، يبدأ عهدهم من خمسمائة وخمسين قبل الميلاد، ويوجد في هذا العهد لقبهم ملك سبأ مكتوبا في النقوش، وكانت عاصمتهم مأرب، وكانت هذه المدينة واقعة في الشرق، وتسمى مدينة سبأ أيضاً، وكان اسم قصر مأرب الملكي سلحين. 52 ومنذ سنة خمسمائة وخمسين سنة إلى مئة وخمس عشرة سنة قبل الميلاد تكون مجموعة السنين أربعمائة وخمس وثلاثين سنة، وهذا يوافق الخبر العربي الذي يصر على أن سبأ حكمت أربعمائة وأربعًا وثمانين سنة. 53 وكان ملوك سبأ في هذه الفترة سبعة عشر ملكا، أسماؤهم فيما يلي:
في هذا العهد بني سد مأرب، يسميه عرب الحجاز سدا، وعرب اليمن عرما، ليس في بلادهم نهر دائم، وإنما هي سلسلة الجبال ينفجر الماء من الجبال، ويجري حتى يغور في الرمال التي لا تصلح للزراعة، فكانوا يقيمون سدوداً كبيرة بين الجبال والأودية في الأمكنة المختلفة حتى يجتمع الماء، وينتفع به في الزراعة، وكانت مئات من السدود في مملكة سبأ، أشهرها سد مأرب الذي كان في العاصمة، وفي جنوب مدينة مأرب جبلان من اليمين والشمال، يسميان الأبلق، بينهما وادي أذينة، تجتمع مياه الجبال وغيرها في وادي أذينة وتصير نهرا، فبنت سبأ سدًّا بين الجبلين سنة ثمانمائة قبل الميلاد تقريبًا، كان طوله مئة وخمسين ذراعا، وعرضه خمسين ذراعا، معظم أجزائه متهدمة الآن. 55
إن عامة المؤرخين المسلمين ينسبون كل بناء أو قصر قديم إلى سليمان عليه السلام، ويرون أن هذا السد شيدته بلقيس ملكة سبأ وحرم سليمان، لكن نقوش السد الباقي تتضمن أسماء بناته، قرئ منها أسماء: يثع أمر بين بن سمه علي نيوف مكارب سبأ، وسمه علي نيوف بن ذمار علي مكارب سبأ، وكرب إيل بين بن يثع أمر مكارب سبأ، وذمار علي ذريح ملك سبأ، ويدع إيل وتر. يثبت من ذلك أن هذا السد تم بناؤه في مدة طويلة في عهود مختلف ملوك اليمن، كان بانيه الأول يثع أمر في القرن الثامن قبل الميلاد، وكانت في هذا السد فتحات كثيرة في أعلاه وأسفله، والتي كانت تفتح وتغلق حسب الأحوال المختلفة، وكان علي يمين السد ويساره في الشرق والغرب بوابتان كبيرتان، يقسم منهما الماء على أراضي اليمين والشمال. وكان من بركة هذا النظام للسقيا أن قامت جنات عن يمين وشمال إلى مئات الأميال في هذه البراري والصحراء القاحلة، فيها فواكه وثمار وأشجار طيبة كثيرة. 56
كانت الملكة بلقيس من ملوك سبأ. روي عن ابن عباس رضي اللّٰه عنهما أن اسمها بلقيس بنت ذي شيرة، وكانت هلباء شعراء. 57 وقيل: اسمها بلقمة. 58 وقيل: كان اسمها ليلى. 59 ملكت اليمن تسع سنين، ثم كانت خليفة عليها من قبل سليمان بن داؤد عليهما السلام أربع سنين. 60
ورد في التنزيل العزيز ما جرى بين سليمان عليه السلام وبلقيس. قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ 20 لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ 21 فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ 22 إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ 23 وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّٰه وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ 24 أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ 25 اللّٰه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 26 قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ 27 اِذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ 28 قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ 29 إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللّٰه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 30 أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ 31 قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ 32 قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ 33 قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ 34 وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ 35 فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللّٰه خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ 36 اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ 37 قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ 38 قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ 39 قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ 40 قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ 41 فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ 42 وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّٰه إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ 43 قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 4461 روي أنها لما أسلمت فتزوجها سليمان بن داؤد، ومهرها باعلبك. 62
أنعم اللّٰه تعالى على سبأ بنعم كثيرة جليلة، قل أن تمتعت بها أمة أخرى غيرهم، كانوا في نعماء وآلاء، لا تعد ولا تحصى، حيث أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار، وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تخترف فيه الثمار، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف؛ لكثرته ونضجه واستوائه. 63 وحسبوا أرضهم كقطعة من الجنة ونعمة جلى من قبل اللّٰه تعالى، فبقوا على إسلامهم يمتثلون بأوامر اللّٰه عز وجل، لكن رغد العيش ووفرة الأموال وكثرة النعم أنشأت فيهم خصائل رذيلة اتصف بها من قبلهم من الأمم فتركوا دين الأنبياء والرسل الذين جاءوا به وبعثهم اللّٰه بذلك. قال وهب بن منبه: أرسل اللّٰه إليهم ثلاثة عشر نبيا. وزعم السدي أنه أرسل إليهم اثني عشر ألف نبي. 64
لما تمردوا في طغيانهم وكفرانهم وكذبوا ما جاء به الأنبياء، فنزل عليهم العذاب بأن انهدم سد مأرب وانفجر بأمر اللّٰه تعالى، وقد كان بناؤه مفخرة لهم، وبها امتدت عاصمتهم إلى ثلاثمائة ميل مربع، ارتوت ماءها فازدهرت وخصبت، وكثرت فيها الحدائق والغابات، والخضرة والنضرة، وأصبحت مياهه سيلا أحدقت العاصمة كلها، وبعد ذلك عندما جفت المياه، فنبتت أشجار الطرفاء والأراك والتوت البري، وأشجار ذات ثمار طعمها مر، وقد وصف القرآن هذا الحادث الهائل بقوله: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ 16 ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ 1765 على الرغم من أنهم كانوا أهل قوة وسطوة لم ينجوا من هذا العذاب، فبعضهم هلك، وبعضهم انتشر في الأرض قبائل وعشائر، وتفرق في شتى مدن وبلاد العرب.
قامت مملكة قتبان في جنوب الجزيرة العربية. ذهب الأخباريون إلى أن المملكة القتبانية شهدت نهاية الدولة المعينية، وعاصرت دولة سبأ والدولة الحميرية. 66 قامت من خمسمائة قبل الميلاد إلى مئتي سنة قبل الميلاد. 67 ربما هذه الدولة قد عاصرت الفترة الواقعة بين ألف سنة قبل الميلاد إلى مئتي سنة قبل الميلاد. 68 وهناك آراء أخرى نقلت عن المؤرخين والباحثين في قيام هذه المملكة وازدهارها وانحطاطها وزوالها. 69 لانذكرها مخافة التطويل.
بالرغم من قلة المعلومات المتوفرة عنها اكتشفت في القرنين الماضيين نقوش أثرية يعلم في ضوئها تاريخ بسيط لمملكة قتبان. فقام العالم النمساوي إدوار غلازر بأربع رحلات إلى الجنوب العربي من اثنين وثمانين إلى اثنين وتسعين بعد الألف وثمانمائة للميلاد، وجمع عددا كبيرا من الكتابات والنقوش أربت على ستمائة، بينها أكثر من مئة نقش من العهد القتباني. 70 وقد نشر كثير منها في المجلات الألمانية والفرنسية والإنجليزية التي تعنى بالاستشراق، وأشهر الذين اهتموا بحل رموزها العلماء موللر وغلازر وهومل ولا سيما أوسياندر الذي استطاع أن يقرأ جميع الكتابات ويكشف عن معانيها، فوضع بذلك الأساس المتين لدراسة عرفت باسم الدراسة العربية الجنوبية. 71 ولعل السبب في قلة المعلومات المتوفرة عندنا عنها هو ضعف قتبان وانضوائها تحت لواء حكومة سبأ. 72
كانت مملكة قتبان قائمة في أرض عدن، تسمى بوادي بيحان، وهي من صميم أرض قتبان، وتقع شمال الجهة الغربية من عدن. 73 إلا أن قتبان كانت مبتعدة عن الساحل الهندي إلى الداخل، حيث كانت تقوم بينها وبين البحر مملكة أوسان الصغيرة، وأهم بلادها شقرة على ساحل المحيط الهندي، ثم تنتهي إلى إمارة عدن. 74 ثم مع مرور الزمن خربت تمنع وذهبت أهميتها وسطوتها حتى تحولت إلى قرية صغيرة، ويرى المؤرخون أن عاصمة قتبان خربت في حرب حاسمة حدثت قبيل ميلاد المسيح عليه السلام. 75
كانت قتبان موضعا في نواحي عدن. 76 سميت بقتبان بطن من رعين من حمير، أو بقتبان بن ردمان بن وائل بن الغوث، مع أنه لا صلة في النسب بين حمير وقتبان في النصوص القتبانية أو الحميرية. ولعل هذا النسب إنما وقع بسبب ضعف "قتبان" التي اندمجت بعد فقد استقلالها في المملكة الحميرية. 77
لم يستطع العلماء والمؤرخون وضع قائمة كاملة بأسماء الملوك الذين حكموها، ولا يزال ثمة ثغرات فيها، إنما استنتجوا من النصوص أن حكامها كانوا في أول فترة من حكمهم يحملون لقب مكرب التي تترجم بكلمة مقرب في لغتنا، وهي تعبر عن التقرب إلى الآلهة، فهي لقب مقدس، ويفيد القيام بوظائف الكهانة، أي: إن الحاكم هو في الوقت نفسه كاهن وشفيع للناس عند الآلهة، مثل هذا اللقب كمثل مزود عند المعينيين، لكن الأمر تطور بعدئذ إذ أضافوا إلى ألقابهم ملكا، وفي فترة تالية نزعوا عن أنفسهم لقب مكرب، واكتفوا بلقب ملك. 78
تتضمن بعض الكتابات القتبانية القديمة نصوصا رسمية تتعلق بفرض الضرائب وبالتجارة، أو تحتوي على قوانين من جملتها كتابة هي عبارة عن قانون من القوانين الجزائية. ذكر بأنه صدر "باسم الملك" وورد بعد اسمه كلمة مشود، وهي تعني المجلس الذي يجتمع فيه رؤساء المملكة والمشايخ والأعيان؛ للبت في الأمور وتقنين القوانين وإدارة الحروب وتنفيذ الأعمال، فهو مجلس الملك ومجلس المدينة. وكان مركزه في العاصمة "تمنع"، وهي مدينة كحلان الحالية. ويظهر أنه كان ثمة مجالس شبيهة به في كل مدينة من المدن القتبانية؛ للبت في الأمور المشابهة. والجدير بالذكر أن القانون قد حدّد عقوبة القتل "القاتل يعاقب بالقتل، أو بعقوبات أخرى بحسب الأوامر التي يصدرها الملك بمقتضى هذا القانون" كما حدد عقوبات مرتكبي مختلف الجرائم ومخالفي القوانين والأنظمة، وعقوبة الشخص الذي يقتل مجرما حكم عليه بالموت. وأخيرًا يستدل من النقود الذهبية التي عثر عليها في العاصمة "تمنع" وفي مدينة "حريب"، ومن التماثيل المصنوعة من المعدن، ومن بعض المصنوعات المعدنية التي وجدت في أماكن أخرى، أن القتبانيين كانوا على نصيب وافر من التقدم، وأنهم قد ضربوا بسهم وافر في المدنية والحضارة، وأما معبودهم الرئيسي فهو الإله "عم". 79
كانت مملكة حمير قائمة في جنوبي الجزيرة العربية، وهي من أقدم الممالك العربية التي قامت في هذه الناحية. 80 ينتمي نسب حمير إلى قحطان بن عابر. وذكروا أنه حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. 81 وهناك اتفاق في وجهة النظر بين المؤرخين على تقسيم الدولة الحميرية إلى دورين:
الدور الأول: كان لقب الملوك فيه "ملك سبأ وذو ريدان" كما ظهر من النقوش التي عثر عليها في أنقاضهم، والتي يستدل منها أن أول ظهور لهذا اللقب كان سنة مئة وخمسة عشر قبل الميلاد، غير أن هذا اللقب قد خضع لتطور جديد منذ عام ثلاثمائة قبل الميلاد؛ إذ أضيفت إليه أسماء بعض المناطق الأخرى، فأصبح "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت". وفي فترة أخرى أضيف "يمنات وعربهم في الجبال وتهامة" ولذا جنح المؤرخون إلى جعل سنة ثلاثمائة للميلاد، بدءا لعهد جديد في الدولة الحميرية سموه الدور الثاني فقالوا: إن نهايته كانت سنة خمسمائة وخمس وعشرين للميلاد الموافقة للاحتلال الحبشي لليمن. 82
ذكر الأخباريون: إن حمير كان اسم قبيلة للحميريين، وهو أبو القبيلة. وقيل: قد سموه العرنج. وزعموا أنه كان ملكا. وحمير هو ابن سبأ. 83 فالعصر الذي يبتدئ من المملكة الحميرية يطلق عليه أحيانا عصر الدولة الحميرية الأولى، بأن الملوك قد حملوا فيه لقب ملك سبأ وذي ريدان. 84 وما زالت هذه الدولة معروفة بالمملكة الحميرية في صفحات التاريخ.
قد تصرح نقوش الحبشة باسم حمير أو أرض حمير، حمير مشتق بالعربية والحبشية من الحمرة أي: الاحمرار، ويطلق على الأبيض، وتقابله كلمة الأسود. والعرب تقول: الأحمر والأسود، والعرب تسمي الحبشة السود أو السودان، والحبشة تسميهم حمير بمعنى الحمر. 85 وقد ذكر بعض اللغويين أن ملكهم عرنج سمي حميرا؛ لأنه كان يلبس حلة حميراء. 86
كان ملوك الطبقة الثانية من المملكة الحميرية يلقبون بملك سبأ وذي ريدان وحضرموت، والعرب تسميه تبع، جمعه تبابعة. ويمكن أن يكون تبع في العربية بمعنى المتبوع، وقد سمي به ملوك اليمن الذين فتحوا البلاد وانتصروا عليها. قال المسعودي: لا يقال للملك تبع حتى يغلب اليمن والشحر وحضرموت. 87 ولذلك قال السهيلي: معنى تبع الملك المتبع. وقيل: التبابعة ملوك اليمن وأحدهم تبع؛ لأنهم يتبع بعضهم بعضا، كلما هلك واحد قام آخر تابعا له في سيرته، وزادوا الباء في التبابعة؛ لإرادة النسب. 88
قد ملك اليمن كثير من التبابعة إلا أن أكثرهم شهرة وسمعة كانوا ثلاثة، الأول، تبع الأكبر وهو الحارث الرائش، كانت مدة حكمه من مئتين وثمانين إلى ثلاثمائة وخمسة عشر سنة للميلاد. والثاني، تبع الأوسط وهو أسعد أبو كرب بن كلي كرب، كانت مدة حكمه من أربعمائة سنة إلى أربعمائة وخمس وعشرين سنة للميلاد. والثالث، تبع الأصغر وهو أسعد أبو كرب الذي تهود على يد الحبرين اليهوديين. قال ابن إسحاق: وتبان أسعد أبو كرب الذي قدم المدينة، وساق الحبرين من يهود المدينة إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه، وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر. 89 وقال أيضا: فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب -وتبان أسعد هو تبع الآخر- ابن كلي كرب بن زيد، وزيد هو تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الريش. 90
كان حبشة أكسومي يحسدون حمير على استيلائهم التام على سبأ. يظهر من النقوش الحبشية أنهم بدؤوا الحملات على اليمن من القرن الثاني المسيحي، وظلت هجماتهم متواصلة، فكانوا فاتحين متقدمين أحيانا، ومهزومين متقهقرين أخرى، واغتنموا الفرصة أخيرا، وسيطروا على حضرموت وبعض الأمكنة الساحلية. لعل شمر يرعش -الذي يراه العرب شخصين الحارث الرائش وشمر يرعش- حاربهم واسترد منهم هذه الأمكنة المحتلة، فإنه كان أول ملك لليمن وحضرموت كلتيهما، ولقب نفسه تبعًا، ومعناه السلطان بالحبشية، والعرب يعيرونه أهمية كبيرة من أجل بطولته الوطنية. ولا نجد ملوكًا بعد شمر يرعش في العقود المتوسطة إلى مدة من هم في قوته، فلعلهم كانوا خلفاء له غير مؤهلين، فشنت حبشة أوكسومي هجمة أخرى، وهزموا حمير وظلوا مسيطرين على اليمن من العام الأربعين وثلاثمائة إلى العام السابع وثمانين وثلاثمائة الميلادي، وإن كان الأمراء المحليون قد داموا ثابتين على مناصبهم كنواب لهم حتى قام الملك يكرب سنة سبع وثمانين وثلاثمائة المسيحي بطردهم، وأقام دولةً حقيقية في اليمن وحضرموت مرة أخرى، وبقيت هذه الدولة إلى العام الخامس والعشرين بعد خمسمائة الميلادي؛ إذ قام الأوكسوميون بشن هجمة عليهم حتى دمروهم نهائيًا، فالملك أذينة وخلفاؤه الذين حكموا من عام 340 إلى عام 387 الميلادي يسمون أنفسهم "ملك أكسوم وحمير وريدان وأثيوبيا وسبأ وزيلع. 91
ثم ملك في خلال الفترة من عام 518 إلى عام 525 الميلادي ملك حميري، عرف بذي نواس، وأغار على نجران قتل منهم الأساقفة والرهبان وأحرق الأناجيل والكنائس، وأفلت دوس ذو ثعلبان، فسار إلى ملك الروم، فأعلمه ما صنع ذو نواس بأهل دينه من قتل الأساقفة، وإحراق الانجيل، وهدمه البيع، فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، فبعث بأرياط في جنود عظيمة، وركب البحر حتى خرج على ساحل عدن، وسار إليه ذو نواس، فحاربه، فقتل ذو نواس، ودخل أرياط صنعاء، واسمها دمار، وإنما صنعاء كلمة حبشية، أي: وثيق حصين، فبذلك سميت صنعاء. 92 قال ابن إسحاق: أقام أرياط بأرض اليمن سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي -وكان في جنده- حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم، ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا، فابرز إلي وأبرز إليك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط: أنصفت. فخرج إليه أبرهة، وكان رجلا قصيرا، لحيما حادرا، وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط، وكان رجلا جميلا عظيما طويلا، وفي يده حربة له، وخلف أبرهة غلام له، يقال له عتودة، يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة، يريد يافوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته، فبذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وودى أبرهة أرياط. 93 وبعد زمن قليل حدثت وقعة أصحاب الفيل، وملك بعد أبرهة ابناه يكسوم ومسروق واحدا تلو الآخر.
لما أهلك اللّٰه أبرهة خلفه في ملكه بأرض اليمن ابنه يكسوم بن أبرهة، فكان شرا من أبيه، وأخبث سيرة، فلبث على اليمن تسع عشرة سنة ثم مات، فملك من بعده أخوه مسروق، وكان شرا من أخيه، وأخبث سيرة، فلما طال ذلك على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري من ولد ذي نواس حتى أتى قيصر، وهو بأنطاكية، فشكى إليه ما هم فيه من السودان، وسأله أن ينصرهم وينفيهم عن أرضهم، ويكون ملك اليمن له. فقال قيصر: أولئك هم على ديني، وأنتم عبدة أوثان، فلم أكن لأنصركم عليهم. فلما يئس منه توجه إلى كسرى، فقدم الحيرة على النعمان بن المنذر، فشكى إليه أمره. فقال له النعمان: ما كان سبب إخراج جدنا ربيعة بن نصر إيانا عن أرض اليمن، وإسكاننا بهذا المكان إلا لهذا الشأن، فأقم، فإن لي وفادة في كل عام إلى الملك كسرى بن قباذ، وقد حان ذلك، فإذا خرجت أخرجتك معي، واستأذنت لك، وتشفعت لك إليه فيما قصدت له، ففعل واستاذن، وتشفع، فوجه كسرى بجيش ممن كان في السجون، وأمّر عليهم رجلا منهم، يقال له وهرز بن الكامجار، وكان شيخا كبيرا، قد أناف على المئة، وكان من فرسان العجم وأبطالها، ومن أهل البيوتات والشرف، وكان أخاف السبيل، فحبسه كسرى، فسار وهرز بأصحابه إلى الأبله، فركب منها البحر، ومعه سيف بن ذي يزن، حتى خرجوا بساحل عدن، وبلغ الخبر مسروقا، فسار إليهم، فلما التقوا وتواقفوا للحرب أسرع له وهرز بنشابه، فرماه، فلم يخطئ بين عينيه، وخرجت من قفاه، وخر ميتا، وانفض جيشه، ودخل وهرز صنعاء، وضبط اليمن، وكتب إلى كسرى بالفتح، فكتب إليه كسرى، يأمره بقتل كل أسود باليمن،وبتمليك سيف عليها، وبالاقبال اليه، ففعل. وان بقايا من السودان قد كان سيف استبقاهم، وضمهم الى نفسه، يجمزون بين يديه إذا ركب، شدوا على سيف يوما، وهم بين يديه في موكبه، فضربوه بحرابهم حتى قتلوه، فرد كسرى وهرز الى ارض اليمن، وامره الا يدع بها اسود ولا من ضربت فيه السودان الا قتله، فأقام. فأقام بها خمسة أحوال، فلما أدركه الموت دعا بقوسه ونشابه. ثم قال: أسندوني، ثم تناول قوسه، فرمى. وقال: انظروا حيث وقعت نشابتي. فابنوا لي هناك ناووسًا، واجعلوني فيه. فوقعت نشابته من وراء الكنيسة، وسمى ذلك المكان إلى اليوم مقبرة وهرز، ثم وجه كسرى إلى أرض اليمن بادان، فلم يزل ملكا عليها إلى أن قام الإسلام. 94
كانت هذه الممالك الأربعة مستقلة، مستقرة في حالها، مستمرة إلى مآلها، ولم تكن هي ممالك محضة، بل كانت حضارات وثقافات كبيرة، تدل على تطورها ورقيها في شتى مجالاتها النقوش الأثرية المنكشفة في الأطلال والأنقاض، كانت مبعث الأنبياء، ومهبط الوحي، لكنهم لم يعتنوا بتعاليم الأنبياء والرسل، حتى هلكوا وهلكت ممالكهم وحضارتهم فلم يبق لهم أثر ولا خبر. بالإضافة إلى ذلك لم تستطع هذه الممالك مع كل قواها العسكرية والمادية أن تجمع بين القبائل العربية في وحدة سياسية أو قبلية، فهذه ميزة تخص بالرسول صلى اللّٰه عليه وسلم حيث جمع العرب وجعلهم جميعا كتلة دينية ووحدة إسلامية.