لا تخفى على من له أدنى علاقة بالتاريخ مظاهر شجاعة العرب وبسالتهم في ميدان الحرب، والتاريخ ملآن من وقائع بسالتهم وقصص شجاعتهم. وبالمناسبة لم يكن عند العرب نظام عسكري، ولا لهم معرفة بالزحف صفوفا، بل كانوا يقاتلون بالكر والفر، يحاربون بالسيوف والرماح والسهام، ولم يكن مفهوم الشجاعة والبسالة عندهم إلا الخوض في المعارك الحاسمة كرًا وفرًا. وكانت عندهم للنصر والهزيمة معايير تختلف عما كانت معروفة في الأمم والأقوام الأخرى، فإن انهزموا في حرب أعدوا قوتهم للانتصار في المرة القادمة حتى انتصروا، وبعد النصر في الحرب اغتنموا أموالهم وقسموها فيما بينهم، والظاهر أن كل قبيلة عربية قديمة كان لها شيخ يقودها في حروبها، ويقسم غنائمها، ويستقبل وفود القبائل الأخرى، ويعقد الصلح والمحالفات، ويقيم الضيافات. وله حقوق أدبية ومادية، أما الأدبية فأهمها توقيره واحترام شخصه ورأيه، كما أنه له الإمرة العامة على الجند. وأما حقوقه المادية، فقد كان له في كل غنيمة تغنمها القبيلة المرباع، وهو ربع الغنيمة، والصفايا، وهو ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة، والنشيطة، وهو ما أصيب من مال العدو قبل اللقاء، وكذلك الفضول، وهو ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة.
لم تكن في جزيرة العرب منظمات عسكرية وحربية، تقاتل في الحروب والمعارك، صغيرة وكبيرة، وتقسم الغنائم والأموال، إلا أن النعمان بن المنذر، وقد كان رجلا حازما، قويا محاربا، من أشد الناس نكايةً في عدوه، قد شكل خمس كتائب، هي: دوسر، والرهائن، والصنائع والوضائع والأشاهب، وتفصيلها فيما يلي:
هي كتيبة ثقيلة تجمع فرسانا وشجعانا من كل قبيلة، فأعزاهم النعمان أخاه، أي: أعطاهم إياه يغزو بهم، وجل من معه بكر بن وائل. 1 واشتهرت دوسر بشدة ضربتها حتى قيل: أبطش من دوسر. 2 وكانت أخشن كتائبه وأشدها بطشًا ونكايةً، وكانوا من كل قبائل العرب، وأكثرهم من ربيعة. سميت دوسرا؛ اشتقاقًا من الدسر، وهو الطعن بالثقل؛ لثقل وطئها. 3 قال الشاعر:
ضربت دوسر فيهم ضربة
أثبتت أوتاد ملك فاستقر 4
قيل: كان في هذه الكتبية أربعة آلاف رجل، لهم أيد وقوة وبطش يعدهم الملك لأعدائه. 5
الكتيبة الثانية الرهائن، هم غلمان كان الملك بالحيرة يأخذهم رهانًا من أحياء العرب على الطاعة، وعلى أن لا يفسدوا في بلاد كسرى، ولا يغيروا على أطرافها، وعلى ما كان يجري بينه وبينهم من صلح أو ميثاق على أمر من الأمور، فيكونون عنده، ويصحبونه إلى سراياه ومغازيه. 6 كانت تتألف من خمسمائة رجل رهائن لقبائل العرب، يقيمون على باب الملك سنةً، ثم يجيء بدلهم خمسمائة أخرى، وينصرف أولئك إلى أحيائهم، فكان الملك يغزو بهم ويوجههم في أموره. 7 وكان ملك العرب في رأس كل سنة، وذلك في أيام الربيع يأتيه وجوه العرب وأصحاب الرهائن، وقد صير لهم أكلا عنده، وهم ذوو الآكال فيقيمون عنده شهرًا، ويأخذون آكالهم، ويبدلون رهائنهم، ثم ينصرفون إلى أحيائهم. 8
إن كتيبة الصنائع جماعة كان يصطنعهم الملك من العرب؛ ليحارب بهم. 9 وكان يأخذهم من بني قيس وبني تيم اللات، ابني ثعلبة، وكانوا خواص الملك لا يبرحون بابه. 10 ومقصد كتيبة الصنائع أن يحافظوا على الملك ويحموه من الغارات الخارجية.
أما الوضائع فكانوا شبه الرهائن، كان كسرى يرتهنهم وينزلهم بعض بلاده. 11 وهي في الحقيقة كانت كتيبة للنعمان، وقوامها ألف رجل من الفرس، يضعهم ملوك الفرس بالحيرة؛ نجدة لملوك العرب. 12 ويضعهم كسرى عنده عُدة ومددا، فيقيمون سنة عند الملك من ملوك لخم، فإذا كان في رأس الحول ردهم إلى أهليهم وبعث بمثلهم. 13 فبهم كانت قوة ملوك الحيرة على العرب، وبهم كانوا يقهرون أهل الحيرة، حتى تستقيم لهم طاعتهم، وكانت عدتهم ألف أساور، وكانت نوبتهم حولا كاملا، فكلما انقرض الحول جهز كسرى غيرهم، فوضعهم عند الملك بالحيرة، وعاد الذين قضوا نوبتهم إلى باب كسرى، فلذلك سموا الوضائع. 14
الأشاهب يسمون الشهباء أيضًا، هم أهل بيت الملك، كانت كتيبة للنعمان، وهم إخوته وبنو عمه ومن معهم من أعوانهم وعبيدهم، سميت بذلك؛ لبياض وجوههم. 15 وكانت العرب تسمي بني المنذر: الملوك الأشاهب لجمالهم. 16
كانت هذه الكتائب الخمسة عدة ومددا لملوك العرب، ومندوبة لذكائهم وفطانتهم، شيد بها النعمان نظامه الدفاعي، وتنظيمه الحربي، وهي كتائب تحمي الملك والدولة من صولات وهجمات الأعداء، فكان التسلسل إلى بلاط الملوك كان من أصعب الأمور، كأن هذه الكتائب موضوعة لحماية الملك نفسه. ثم جاء بعد النعمان كثير من ملوك العرب، وسلكوا مسلكه في تكوين الكتائب، وتشييد النظام الدفاعي.
كانت العرب في الجاهلية يخوضون في حروب قاسية دامية، تستمر إلى سنوات عديدة، تحدث أحيانا بين القبائل الصغيرة، وأحيانًا تحدث بين الدول الكبيرة. أما آلات الحرب وأوزارها التي تحارب بها العرب فكانت شتى أنواع من الأسلحة، تصنع في مختلف مناطق جزيرة العرب، وتفصيل بعضها فيما يلي:
كان السيف هو أقدم أوزار الحرب وأجودها وأشهرها عند العرب، وكان أكثر استخداما في حياة العرب ولذلك سموه بأسماء عديدة. وذكره شعراء الجاهلية في أشعارهم وقصائدهم بكل شوق ورغبة. وكان من أحسن السيوف عند العرب السيف المشرفي، وكانوا أكثر ما يتحمسون بها، قال ضرار بن الأزور في يوم اليمامة:
ولو سئلت عنا جنوب لأخبرت
عشية سالت عقرباء وملهم
وسال بفرع الواد حتى ترقرقت
حجارته فيها من القوم بالدم
عشية لا تغني الرماح مكانها
ولا النبل إلا المشرفي المصمم 17
المشرفي بفتح الميم، والجمع، السيوف المشرفية. قيل: إنها سميت بذلك؛ نسبة إلى المشارف جمع مشرف، ويراد بها قرى للعرب تدنو من الريف. وقيل: لأنها من مشارف الشأم. 18 وذكر ابن رشيق أن السيف المشرفي منسوب إلى مشرف، وهي قرية باليمن كانت السيوف تعمل بها. 19 وقيل: السيوف المشرفية منسوبة إلى مشرف، رجل من ثقيف. 20 وكان من أحسن السيوف، السريجية: منسوبة إلى سُرَيْج رجل من بني أسد. هو أحد بني معرض بن عمرو بن أسد بن خزيمة، وكانوا قيونا. 21
كانوا يصفون السيف بالأبتر والبتار والمحذم والحاروقة والحسام والمحتد والخذوم والمخذم والخاشف والخضم والصروم والصلت والأصمع والقباب والقرضاب والقرضوب والقضاب والنهيك، والعضب والباضك والبضوك للسيف الماضي القاطع وغيرها. 22 وقال عمرو الحميري لما سأله أبوه القيل عن أحب السيوف إليه: الصيقل الحسام، الباتر المجذام، الماضي السطام، المرهف الصمصام، الذي إذا هززته لم يكب، وإذا ضربت به لم ينب، وقال أخوه ربيعة: نعم السيف نعت وغيره وأحب إلي منه، وهو الحسام القاطع، ذو الرونق اللامع، الظمآن الجائع، الذي إذا هززته هتك، وإذا ضربته به بتك. 23 وكل هذه الأسماء والصفات تدل على شغفهم الشديد بالسيف، وربطهم المحكم به.
كان الرمح من آلات الحرب عند العرب، وهو قناة في رأسها سنان يطعن به، وسلاح يستعمل لطعن العدو. يستعمله الفارس في الغالب، له رأس منبل حاد، يطعن به، وقد يكون له رأس آخر، يثبت به في الأرض، وهو يختلف طولًا ووزنًا، وهو من الأسلحة القديمة، ولا يزال معروفًا، تستعمله بعض القبائل والشعوب البدائية، يصنع من حديد أو من معدن آخر، كما يكون من أعواد الأشجار القوية أو القصب القوي. 24 ذكر الأصمعي أجزاء الرمح، وهي القارية من السنان، أعلاه. والجبة: ما دخل فيه الرمح من السنان. والثعلب: ما دخل من الرمح في جبة السنان. والعامل: أسفل من ذلك. والجلْز من السنان إنما أخذ من جلز السوط، وهو معظمه، وأصل الجلز: الطي واللي. 25 وللرماح عند العرب أنواع، الأزنية أواليزنية، والخطية، والردينية، والسمهرية.
الأزنية واليزنية، يقال: رمح أزني ويزني. وبعضهم يقول: يزأني وأزأني. وقالوا أيضًا: أيزني، ووزنه عيفلي. وقالوا: آزني، ووزنه عافلي. 26 تنسب إلى ذي يزن، ملك من ملوك حمير. 27 قال ابن الكلبي: إنما سميت الأسنة يزنية؛ لأن أول من عملت له ذو يزن، وهو من ملوك حمير. 28 وقيل: يزن، اسم موضع باليمن أضيف إليه ذو. 29 قال الشاعر:
أرين الذي استودعن سوداء قلبه
هوى مثل شك الأزأني النواجم 30
الخطية كانت من أجود الرماح عند العرب، وتنسب إلى الخط. 31 والخط جزيرة بالبحرين. قال الأصمعي: ليست تنبت الرماح، لكن سفن الرماح ترفأ إلى هذا الموضع، فقيل للرماح: خطية. 32 وقيل: الخط مرفأ السفن، إليه ترفأ السفن إذا جاءت من أرض الهند. 33 وهذا يدل على أن الرماح الخطية كانت تصنع في أرض الهند. وقال الجوهري: إن الخط موضع باليمامة، وهو خط هجر، تنسب إليه الرماح الخطية؛ لأنها تحمل من بلاد الهند فتقوم به. 34
الرمح الرديني ينسب إلى امرأة، يقال لها ردينة، تباع عندها الرماح. 35 وهي أكرم الرماح جوهرا، وأسرعها نفاذًا، وأمنعها على اغتماز. 36
الرماح السمهرية منسوبة إلى سمهر، وهو رجل. 37 وقيل: إنها منسوبة إلى موضع، ويقال: هي الصلبة، من قولهم: اسمهر الأمر إذا اشتد. 38
وقد وقع هنا اختلاف بين المؤرخين والباحثين في أن الرديني والسمهري نوعان للرمح، أو هما اسمان لرمح واحد. فذهب البعض كما يبدو من ظاهر النصوص المذكورة إلى أنهما نوعان مختلفان، لا علاقة لأحدهما بالآخر؛ لكن القول الراحج هو أنهما رمح واحد اشتهر باسمين مختلفين. فذكروا أن الرماح السمهرية منسوبة إلى سمهر، وكان صانعا يصنع الرماح، وكانت امرأته ردينة تبيعها. 39 فالرماح السمهرية هي نفس الردينية، إلا أنها سميت سمهرية؛ نسبةً إلى صانعها وهو سمهر، وردينية؛ نسبةً إلى بائعتها، وهي زوجته ردينة. وذكر الجوهري أيضًا أن الرمح الرديني منسوب إلى امرأة السمهرى، تسمى ردينة. 40
ذكر أهل الأخبار أن الرماح الشرعبية، منسوبة إلى بطن من بطون حمير، يقال لهم: شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد قيس. 41 كما تنسب الرماح السمهرية إلى سمهر بن مالك بن دغر اللخمي. 42 وإليها أشار الأعشى في قوله:
ولدن من الخطي فيها أسنة
ذخائر مما سن أبزى وشرعب 43
كان هناك آلات الحرب يستخدمها العرب في حروبهم. وهي العنزة، والقناة، والألة أو الحربة، ونيزك أو مطرد، والصعدة. العنزة وهي قدر نصف الرمح أو أكبر شيئا، وفيها زج كزج الرمح. والعنزة إذا اجتمع فيها الطول والسنان فهي القناة والرمح. وإذا زاد طولها وفيها سنان عريض فهي آلة وحربة. وإذا طالت شيئًا وفيها سنان دقيق فهي نيزك ومطرد. وإذا كانت مستويةً نبتت السنان، كذللك لاتحتاج إلى تثقيف فهي صعدة. 44
العنزة قدر نصف الرمح أو أكبر شيئًا، وفيها زج كزج الرمح. 45 وسأل القيل الحميري ابنه عن أحب الرماح إليه عند المراس، إذا اعتكر الباس، واشتجر الدعاس. قال: أحبها إلي المارن المثقف، المقوم المخفف، الذي إذا هززته لم ينعطف، وإذا طعنت به لم ينقصف. ثم قال لأخيه: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعم الرمح نعت، وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: الذابل العسال، المقوم النسال، الماضي إذا هززته، النافذ إذا همزته. 46
الحربة آلة قصيرة من الحديد، محددة الرأس، تستعمل في الحرب. أو سلاح أقصر من الرمح، عريض النصل. 47 أما الآلة فقيل: هي الحربة، والإلال الحراب. وقيل: أصغر من الحربة. 48
نيزك ذو سنان وزج، وهو رمح قصير لا يلحق. 49 وفي حديث ابن ذي يزن: لا يضجرون وإن كلت نيازكهم. قال ابن الأثير: هي جمع نيزك، وهو الرمح القصير، وحقيقته تصغير الرمح، بالفارسية. 50 وروي أن عيسى عليه السلام يقتل الدجال بالنيزك. 51
كانت الصعدة في الأصل عصا الرمح، ثم سمي الرمح، فالصعدة قناة مستوية تنبت، لا تحتاج إلى التثقيف. 52
القسي جمع قوس، وهو آلة حربية قديمة على هيئة هلال، ترمى بها السهام، مشدودة من طرفيها بحبل مطاط. قال الأصمعي: في القوس كبدها، وهو ما بين طرفي العلاقة، ثم الكلية تلي ذلك، ثم الأبهر يلي ذلك، ثم الطائف، ثم السية، وهي ما عطف من طرفيها، وفي السية الكظر، وهو الفرض الذي فيه الوتر، والنعل: وهي العقب الذي يلبسه ظهر السية، والخلل، وهي السيور التي تلبس ظهور السيتين، وفي السية الظفر، وهو ما وراء معقد الوتر إلى طرف القوس، والغفارة: وهي الرقعة التي تكون على الحز الذي يجري عليه الوتر، والمضائغ العقبات اللواتي على طرف السيتين، والأساريع الطرق التي فيها، واحدتها طرقة، والإطنابة، السير الذي على رأس الوتر. 53
كانت من أجودها القسي العصفورية، منسوبة إلى رجل يسمى عصفورا. 54 قال الشاعر:
عطف السيات موانع في بذلها
تعزى إذا نسبت إلى عصفور 55
وكان من أشهرها وأجودها القسي الماسخية، منسوبة إلى رجل من الأزد، اسمه ماسخة. 56 قال ابن الكلبي: أول من عمل القسي الماسخية من العرب، ماسخة، وهو رجل من الأزد، فلذلك قيل للقسي: ماسخية. 57 وذكر الجوهري أن الماسخي قواس، والماسخيات: القسي، نسبت إلى ماسخة. 58 قال الشاعر:
كقوس الماسخي أرن فيها
من الشرعي مربوع متين 59
كانت العصفورية والماسخية تعد من أشهر القسي عند العرب.
السهام جمع سهم، وهو قدح يرمى به عن القوس. قال الأصمعي: أول ما يكون القدح قبل أن يعمل نضي، فإذا نحت فهو مخشوب وخشيب، فإذا لين فهو مخلق، فإذا فرض فوقه فهو فريض، فإذا ريش فهو مريش. 60 وأجود السهام التي وصفتها العرب، سهام بلاد، وسهام يثرب، وهما قريتان من حجر اليمامة. 61 وإليهما أشار الأعشى بقوله:
منعت قياس الماسخية رأسه بسهام يثرب، أو سهام بلاد 62
كانت للسهام أنواع تختلف أسماؤها اختلاف وصف فيها، وهي:
الكنانة هي جعبة السهام ومحفظة النبال، وهي جعبة صغيرة من الأدم أو الخشب توضع فيها السهام. والكنائن الزغرية منسوبة إلى زغر، موضع بالشأم، تعمل به كنائن حمر مذهبة. قال أبو داؤد يصف فرسًا:
ككنانة الزغري زينها من الذهب الدلامص 68
وقيل: زغر، اسم بنت لوط عليه السلام، نزلت بهذه القرية، فنسبت إليها، فسميت باسمها. 69
الدرع هو قميص من حديد، يلبسه المحارب؛ وقاية من ضربات السلاح. تنسب إلى داؤد وسليمان عليهما السلام، وداؤد عليه الصلاة والسلام هو أول من اتخذها، روي أنه طلب من اللّٰه أن يغنيه عن أكل مال بيت المال، فألان اللّٰه له الحديد وعلمه صنعة اللبوس وهي الدرع. 70 ويقال: إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم، فيأكل ويطعم منها عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين. 71 وتنسب الدروع إلى فرعون أيضا. قال الشاعر:
بكل فرعونية لونها
لون فضيض البغشة الغادية 72
ومن أجود الدروع عند العرب الحطمية، منسوبة إلى حطمة بن محارب بن عمرو ابن وديعة. قال ابن الكلبي: هي منسوبة إلى حطم أحد بني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة. 73 ومنها الدروع السلوقية، هي نوع آخر من الدروع المشهورة، يقال: إنها نسبة إلى سلوق، وهي قرية باليمن عرفت بدروعها. 74 قال النابغة:
يقد السلوقي المضاعف نسجه
ويوقد في الصفاح نار الحباحب 75
ومن الآلات التي استخدمها المحاربون البيضة، وهي غطاء يوضع على الرأس؛ لحمايته من السيوف والحجارة والعصي وما شابه ذلك. ولا بد أن تكون مصنوعة من مواد واقية تحفظ الرأس من الأخطار، كأن تكون مصنوعة من الحديد أو المواد المعدنية الأخرى أو من الجلود الثخينة، وقد عرفت "البيضة" المستديرة بـتركة. 76 كما تسمى الخوذة أيضًا. أما المغفر فقال الأصمعي: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة. 77 قال ابن شميل: المغفر حلق يجعلها الرجل أسفل البيضة، تسبغ على العنق فتقيه. قال: وربما كان المغفر مثل القلنسوة غير أنها أوسع يلقيها الرجل على رأسه فتبلغ الدرع، ثم يلبس البيضة فوقها، فذلك المغفر يرفل على العاتقين. 78 ومنه حديث أن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر. 79
أما المجن والترس والدرقة، فبمعنى واحد، وهي لوقاية الجسم من ضربات السيوف، ويصنعها العرب من الجلود في الغالب. 80 قيل: ما يعمل من بعض الجلود بلا خشب ولا عقب، وقد توجد الآن في أحياء العرب يتقون بها وقع السيوف على أبدانهم. 81
فهذه آلات الحرب استخدمها العرب في حروبهم وغزواتهم، بعضها كان لضرب العدو وطعنه كالسيف والرماح والقوس والسهم، وبعضها كان لوقاية الجسم من ضربات العدو، كالدرع والبيضة وغيرهما.
كانت الفروسية عند الجاهليين لعبة محلية، وشعارا لأشراف الناس وكرامهم، وشأنا لأبطالهم وشجعانهم، وبناءً على حميتهم العربية كانوا يخوضون في المعارك الحاسمة، يقاتلون قتالا شديدًا مهما كانت نهايتها، لم يكن لهم وراء ذلك غرض أوفر ولا مقصد أكبر إلا أنهم يهتمون بإظهار فروسيتهم في ميدان المعركة، وكانت القبيلة تفتخر بكثرة الفرسان وبطولاتهم ومآثرهم الفروسية. قال الشاعر:
كلا زعمتهم بأنا لا نقاتلكم
إنا لأمثالكم يا قومنا قتل
نحن الفوارس يوم العين ضاحية
جنبي فطيمة لا ميل ولا عزل
قالوا: الركوب، فقلنا: تلك عادتنا
أو تنزلون فإنا معشر نزل 82
وقال الآخر:
فوارس لا يملون المنايا
إذا دارت رحى الحرب الزبون 83
لما كانت العرب أكثر ما يخوضون في الحروب الدامية المستمرة إلى سنين عديدة فكانوا يعينون أحد فرسانهم وشجعانهم قائدًا للجيش الحربي، وحينما اجتمعوا في ساحة الحرب رفع القائد رأية الحرب؛ ليحاربوا كلهم تحت هذه الراية، ويخططوا خططا حربيةً، وحرمة الراية هي حرمة حاملها، وهو القائد الحربي، كما كانوا يوقرونه ويحترمون احترامًا شديدًا.
القيادة إمارة الركب، يعتبر صاحبها كبير القواد، ويسير أمام الجيش في نفوره للقتال، أو في مقدمة الركب إذ سار للتجارة، وكانت القيادة في بني عبد شمس، تعاقب عليها بعده ابنه أمية بن عبد شمس، ثم حرب بن أمية الذي قاد قريشًا في الفجارين الأول والثاني، وخلفه فيها أبو سفيان الذي حارب الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم في يومي أحد والخندق، أما في بدر فكانت القيادة لعقبة بن ربيعة بن شمس؛ لغياب أبي سفيان في تجارة له إلى الشام. 84 ومن ثم لما قال الوليد بن عبد الملك لخالد بن يزيد بن معاوية: لست في العير ولا في النفير. قال له: ويحك، العير والنفير عيبتي، أي وعائي؛ لأن العيبة ما يجعل فيه الثياب، جدي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير. 85
وكانت القبة والأعنة إلى خالد بن الوليد من بني مخزوم، أما القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش. وأما الأعنة فإنه كان على خيل قريش في الحرب. 86 وكل هذه التفاصيل تدل على أن النظام العسكري في العصر الجاهلي كان منسقا منظما إلى الغاية، وكانت الفروسية والبطولة عندهم عبارة عن إظهار مهارات الفروسية في ساحة الحرب.
لم يكن عند العرب نظام عسكري ولا حربي إلى زمن المنذر بن النعمان حتى أنه قام بوضع كتائب الجيش، ثم تطورت هذه الكتائب وشاعت بين العرب شتى أنواع من الخطط العسكرية والحيل الحربية، فكان التنظيم العسكري يدافع عن القبيلة والعشيرة بل عن الشعب العربي كله. بالإضافة إلى ذلك، كان التنظيم العسكري يحرس الملوك ويحمي الرؤساء من هجمات وصولات الأعداء. وكانت فيه عدة مهام ومناصب يعتني أصحابها بنظام الجيش الحربي، ويغتنمون فرصة متاحة للإغارة على الأعداء، ومن ناحية أخرى كان هذا النظام العسكري سببًا لأن يظهر المحارب بطولته وفروسيته في ميدان الحرب، وكان سببا للتكثير في القوى الحربية، فهو وإن كان يكثر القتل ويهريق الدماء إلا أن كان له أثر كبير في الاقتصاص من القاتل وأخذ الدية منه، وبعبارة أخرى كان هذا النظام من أفضل الطرق التي تضمن الحفاظ على دماء البشرية وأموالهم.
توجد توصيات وإرشادات مهمة في تاريخ التنظيم العسكري للعرب الجدد، فإن التنظيم العسكري والقيادة الحربية في الدول العربية تقتضيان مهارةً وقوةً، عدةً وعددًا، ولا شك أن الدول العربية توافقت وتحالفت مع الدول الإسلامية، بما فيها پاكستان أيضًا، في اتفاقيات حربية، تعليميةً وتربويةً؛ لكن من المؤسف أن هذه المعاهدات تعتمد في تصدير الأسلحة واستيرادها على الدول غير الإسلامية، وما زال هذا الجانب بحاجة إلى تطويره وتدعيمه؛ لتكون الدول العربية مستقلةً في إنتاج الأسلحة التقليدية وغيرها، وما نرى اليوم من انحطاط العالم العربي فذاك بسبب ضعف في التنظيم العسكري، وما زال الأعداء يقومون بتدبير مؤامرات الحرب الداخلية بين العرب ودولهم، وأحيانًا يضعفون قوتهم المالية والمادية بطرق متنوعة. فيجب على العرب في الأيام الحاضرة أن يعتبروا بتاريخهم العربي القديم وأن يرتبوا كتائب النعمان بن المنذر من جديد، ويدربوها على الإستراتيجية الحريبة والخطط المثقفة، وأن يستخدموا طباعهم الحربية البطولية الجريئة لإعلاء كلمة اللّٰه، فلايستبعد أن يحكم العرب العالم كله، ولا يستبعد أن يسيطروا عليه شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا.