كان لبيد بن ربيعة من أشراف الشعراء المجيدين، الفرسان القراء المعمرين، أحد شعراء الجاهلية المعدودين فيها، والمخضرمين ممن أدرك الإسلام. 1 كان فارسًا شجاعًا شاعرًا سخيًا. قال الشعر في الجاهلية دهرًا، ثم أسلم. ويقال: إنه ما قال في الإسلام إلا بيتًا واحدًا. 2 وكان ممن جاء في وفد بني كلاب، قدموا سنة تسع وهم ثلاثة عشر رجلًا، منهم، لبيد بن ربيعة الشاعر، وجبار بن سلمى، وكان بينه وبين كعب بن مالك خلة، فرحب به وأكرمه وأهدى إليه، وجاءوا معه إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، فسلموا عليه بسلام الإسلام. وذكروا له أن الضحاك بن سفيان الكلابي سار فيهم بكتاب اللّٰه وسنة رسوله التي أمره اللّٰه بها، ودعاهم إلى اللّٰه، فاستجابوا له، وأخذ صدقاتهم من أغنيائهم فصرفها على فقرائهم. 3
ولد سنة خمسمائة وستين (560) للميلاد، 4 في بني كلاب العامريين، هي عشيرة بني جعفر. 5 وعندما توفي أبوه كان لبيد غلامًا صغير السن، فتكفل أعمامه -بنو أم البنين- بتربيته. 6 وكانوا مشهورين بالفروسية، وقد اشتهر فيها أبوه ربيعة وأعمامه الطفيل وأبو براء ومعاوية. أما ربيعة فكان بحرًا فياضًا، ومن ثم لقب ربيع المقترين، وقد قتلته بنو أسد في بعض حروبها مع قومه. وأما الطفيل فكان فارسًا مغوارًا، وهو أبو عامر المشهور هو الآخر بفروسيته. وكذلك كان أبو براء شجاعًا مقدامًا، وكان يلقب بملاعب الأسنة. أما معاوية فكان ذا رأي وحكمة، فلقب بمعوذ الحكماء. 7 وسبب تلقيب عمه أبي براء بملاعب الأسنة لقول أوس بن حجر فيه:
فلاعب أطراف الأسنَّة عامر
فراح له حظُّ الكتيبة أجمع 8
كان لكل من أعمامه وأقربائه حظ وافر من الخصائل والفضائل كالفروسية والشجاعة، والجود والسخاء، والشعر والأدب، ولكل منهم قدم راسخة في شغله.
اسمه لبيد بن ربيعة، وسمي عاصما أيضا، يقول:
لعبت على أكتافهم وحجورهم
وليدًا وسموني لبيدًا وعاصمًا 9
أما نسبه فهو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب، 10 بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. 11 وقيل: صعصعة بن معاوية، وينتهي نسبه عند مُضَر. 12 فهو العامري ثم الجعفري، كان شاعرا من فحول الشعراء. 13 لأنه كان من عشير بني جعفر في بني كلاب العامريين.
يكنى بأبي عقيل. 14 ذكرها ابن سعد في الطبقات، والحافظ ابن حجر في الإصابة، 15 وابن عبد البر في الاستيعاب. 16
كان لبيد بن ربيعة فارسًا شاعرًا شجاعًا، وكان عذب المنطق رقيق حواشى الكلام، وكان مسلمًا رجل صدق. 17 كان من الشعراء المخضرمين. كانت أمه تامرة نشأت يتيمة في حجر الربيع بن زياد، وتزوجت أولا قيس بن جزء بن خالد بن جعفر فولدت له أربد، ثم خلفه عليها ربيعة فولدت لبيدًا. وعلى هذا فإن أربد يكون أكبر سنًا من لبيد، وكان أربد يعطف كثيرًا على أخيه الأصغر لبيد، وقد أعجب لبيد فيما بعد بفتوة أخيه من إمعانه في الفروسية والكرم إلى إقباله على لذتي الجاهلية: الخمر والميسر، يفتخر لبيد في أرجوزة له بقوله:
وأم البنين هذه هي ليلى بنت عمرو بن عامر فارس الضحياء، تزوجها مالك بن جعفر فولدت له خمسة من الأبناء، لا أربعة كما قال لبيد، وهم: عامر بن مالك ملاعب الأسنة، والطفيل فارس قرزل، وسلمى نزال المضيق، ومعاوية معوذ الحكماء، وربيعة الذي عرف بلقب ربيعة المقترين، أو ربيع المقترين وهو والد لبيد يفتخر به في شعره، دون أن يعرفه إلا عن طريق الذكريات التي كان يقصها عليه أعمامه وأهله؛ لأن ربيعة قتل، ولبيد إذا ذاك صغير السن. 18 وأدرك بثأره عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب أخوه، وذلك أنه قتل قاتله. 19 فقام أعمامه بتربيته وتكفله، ولم يألوا جهدًا فيه حتى اعترف به لبيد في أشعاره، يقال: إنه عمّر مئة وخمسًا وأربعين سنةً. 20
كان أبوه ربيعة بن مالك من عشيرة بني كلاب العامريين، سخاء جوادا كريما، يقال له ربيع المقترين؛ لسخائه. 21 وقد قتلته بنو أسد في بعض حروبها مع قومه. 22 قيل: قتله منقذ بن طريف الأسدي. وقيل: قتله صامت بن الأفقم، من بني الصيداء. وقيل: ضربه خالد بن نضلة وتمم عليه هذا. 23 فنشأ شاعرنا لبيد يتيما في إثر مقتل والده في يوم ذي علق، تكفله أعمامه، وكان إذاك يبلغ التاسعة من عمره، ولقي لديهم من الرخاء والسعة في العيش ما لم يتوقعه لنفسه، ولم يدم له ذلك حيث وقع بين أسرتين من بني عامر خلاف شتت شملهما. 24 وذلك أن لبيدا كان عامريا من قبل أبيه وعبسيا من قبل أمه، وكان بين العبسيين وبني عامر قبيلة لبيد عداوة منشؤها أن العامريين قتلوا زهير بن جذيمة سيد بني عبس في بعض حروبهم. 25 ويذكر لبيد نفسه أنَّ والدته تامرة نشأت يتيمةً في حجر الربيع بن زياد، وتزوجت أولاً قيس بن جزء بن خالد بن جعفر فولدت له أربد، ثُمّ خلفه عليها ربيعة فولدت لبيد. 26 فكان أبوه هو زوجها الثاني.
إن لبيدا نفي مع قومه عن مواطنهم بحكم سيد من أسياد العرب، وذلك لأن قبیلة غنّي، أي: الغنويون جاوروا بني أبي بکر بن كلاب، فتعدّى أحد الغنویّین علی ابن لعروة بن جعفر فقتله، ثم إن منيعًا الجعفري قتل واحدًا من الکلابیین، فأراد هؤلاء أن یبوء القتیل الثاني بالأوّل، فأبى الجعفریّون ذلك فشبّت الحرب بین الحیین، وخذل فیها بنو جعفر، فنزلوا علی حکم جوّاب بن عوف سیّد بني أبی بکر بن كلاب، فحکم بنفي الجعفریّین عن مواطنهم، فهجروها ولحقوا ببني الحارث بن كعب في الیمن وأقاموا فیها سنةً، وقد غضب لبید من حکم جوّاب. 27 وأظهر غضبه في أبيات، منها:
أبني كلاب كيف تنفى جعفر
وبنو ضبينة حاضرو الأجباب
قتلوا ابن عروة ثم لطوا دونه
حتى تحاكمتم إلى جواب 28
وبنو ضبينة كانوا حيًا من الغنويين، وأشار إليهم لبيد في هذا البيت. فمن مواقف لبید الأولى مشارکته لقومه بني جعفر في الارتحال عن دیارهم قاصدین أرض نجران؛ لأن جوّاب بن عوف زعیم بني أبي بکر بن كلاب حکم علیهم بالنفي، وفي هذه الحادثة نسمع لبيدًا یتهکّم بجوّاب ویسخر من حکمه ویستغرب نفي بني جعفر. 29 لما كان هو شاعرا يذود عن حسب قومه ونسبهم، ويدافع عنهم بأشعاره وأبياته، فعبر عما كان يستغرب من حكم جوّاب.
بدأ لبيد بالشعر في عنفوان شبابه، وذلك عندما وفد بعض قومه على النعمان بن المنذر، وعلى رأسه عمه أبو براء، فوجد هناك وفدًا من بني عبس على رأسه الربيع بن زياد، وكان بين العبسيين وبني عامر قبيلة لبيد عداوة، منشؤها أن العامريين قتلوا زهير بن جذيمة سيد بني عبس في بعض حروبهم، ولم يلبث الوفدان أن اصطدما، وأخذ الربيع يدسّ على العامريين عند النعمان وعرفوا ذلك، فاستشاط لبيد غضبًا، ووثب بين يدي النعمان يهجو الربيع برجز مقذع، فانصرف النعمان عن الربيع وأجزل في إكرامه للعامريين. 30
وتفصيل هذا الخبر أنه وفد عامر بن مالك ملاعب الأسنة -وكان يكنى أبا البراء- في رهط من بني جعفر، ومعه لبيد بن ربيعة، ومالك بن جعفر، وعامر بن مالك عم لبيد على النعمان، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي وأمه فاطمة بنت الخرشب، فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاتهم، فإذا خرجوا من عنده خلا به الربيع فطعن فيهم وذكر معايبهم، وكانت بنو جعفر له أعداءً، فلم يزل بالنعمان حتى صده عنهم، فدخلوا عليه يومًا فرأوا منه جفاءً، وقد كان يكرمهم ويقربهم، فخرجوا غضابًا ولبيد متخلف في رحالهم يحفظ متاعهم، ويغدو بإبلهم كل صباح يرعاها، فأتاهم ذات ليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فسألهم عنه، فكتموه. فقال: واللّٰه، لا حفظت لكم متاعًا، ولا سرحت لهم لعيرًا أو تخبروني فيم أنتم؟ وكانت أم لبيد يتيمة في حجر الربيع. فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك، وصد عنا وجهه. فقال لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه، فأزجره عنكم بقول محض لا يلتفت إليه النعمان أبدًا؟ فقالوا: وهل عندك شيء؟ قال: نعم. قالوا: فإنا نبلوك، قال: وما ذاك؟ قالوا: تشتم هذه البقلة؟ فقال: هذه التربة التي لا تذكي نارًا، ولا تؤهل دارًا، ولا تسر جارًا، عودها ضئيل، وفرعها كليل، وخيرها قليل، وأقبح البقول مرعى، وأقصرها فرعا، وأشدها قلعا، بلدها شاسع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، فالقوا بي أخا عبس، أرده عنك بتعس، وأتركه من أمره في لبس. قالوا: نصبح ونرى فيك رأينا. فرمقوه فوجدوه وقد ركب رحلًا، وهو يكرم وسطه حتى أصبح. فقالو: أنت واللّٰه، صاحبه، فعمدوا إليه فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابته، وألبسوه حلةً، ثم إذا كان معهم وأدخلوه على النعمان، فوجدوه يتغذى ومعه الربيع بن زياد، وهما يأكلان لا ثالث لهما، والدار والمجالس مملوءة من الوفود، فلما فرغ من الغداء - أي: فرغ الربيع من الغداء فأمر النعمان بدخول وفد الجعفريين، أما النعمان فما زال يأكل - أذن للجعفريين فدخلوا عليه، وقد كان أمرهم تقارب، فذكروا الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع بن زياد في كلامهم. فقال لبيد في ذلك:
أكل يوم هامتي مقزعه
يا رب هيجا هي خير من دعه
نحن بني أم البنين الأربعه
سيوف حز وجفان مترعه
نحن خيار عامر بن صعصعه
الضاربون الهام تحت الخيضعه
والمطعمون الجفنة المدعدعه
مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه
إن استه من برص ملمعه
وإنه يدخل فيه إصبعه
يدخلها حتى يواري أشجعه
كأنه يطلب شيئا ضيعه
فرفع النعمان يده من الطعام. وقال: خبثت واللّٰه، علي طعامي يا غلام، وما رأيت كاليوم! فأقبل الربيع على النعمان. فقال: كذب واللّٰه ابن الفاعلة، ولقد فعلت بأمه كذا وكذا. فقال له لبيد: مثلك فعل ذلك بربيبة أهله والقريبة من أهله، وإن أمي من نساء لم يكن فواعل ما ذكرت، وقضى النعمان حوائج الجعفريين، ومضى من وقته وصرفهم، ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه، وأمره بالانصراف إلى أهله فكتب إليه الربيع: إني قد عرفت أنه قد وقع في صدرك ما قال لبيد، وإني لست بارحًا حتى تبعث إليَّ من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أنني لست كما قال لبيد. فأرسل إليه: إنك لست صانعًا بانتفائك مما قال لبيد شيئًا، ولا قادرًا على رد ما زلت به الألسن، فالحق بأهلك. 31
هذه أول مرة ظهرت فيها موهبته الشعرية، وقد نشأ لبيد يشعر شعورًا عميقًا بكرامة أسرته وأمجادها ومناقبه، وبمجرد أن شبّ أخذ يشترك في حروبها وغاراتها ووفادتها على أمراء الحيرة. 32 فاحتل مكانة عالية بين أسرته وقبيلته، فبدأ يشارك في الندوات والمجالس الاستشارية، وكانوا ينظرون إلى رأيه بكل أدب واحترام. وله رأي يقلع النفور من القلوب. يقال: إن بني عامر أقاموا في منفاهم حولًا، ویدل شعر لبید علی أن بعض المشکلات في ذلك المنفی كادت تفرق بینهم وإنه کان له الفضل في توحید الکلمة. قال:
ويوم منعت الحي أن يتفرقوا
بنجران فقرى ذلك اليوم فاقر
وكان زعیم الجعفریّین في أیام المنفى، هو عم لبید أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وقد أبى هذا الزعیم أن یقبل بمصاهرة بني الحارث بن كعب، وأمر قومه بلبس السلاح ورکوب الخیل. ثم قال لهم: سیروا حتی تقطعوا ثنیة القهر، وهي ثنیة بالیمن، فإذا قطعتموها فانزلوا، ففعلوا ما أمرهم به، ثم لحق بهم عند الثنیة، وقال لهم: هل أخذت لکم دیة أو أبتکم علی خسف قطّ؟ قالوا: لا. قال: واللّٰه لتطیعنّني أو لأتکئن علی سیفي حتى یخرج من ظهري، أتدرون ما أراد القوم؟ أرادوا أن یرتبطوكم فتکونوا فیهم أذنابًا، ویستعینوا بکم على العرب وأنتم سادة هوازن ورؤساءهم، ونصحهم أبو براء بالعودة إلى أوطانهم ومصالحة أقربائهم، فعادوا ونزلوا علی حکم جوّاب، وفي هذه المرّة كانت نفس لبید قد هدأت نحو جوّاب، ولم یشأ وهو ابن القبیلة أن یخرج على روح الصلح والوئام، وأخذ یتحدث إلى بني أبي بکر بأن المحافظة على علاقات الود والقربى أجدى علی الفریقین من الخصام. 33
لما أنشد البيت السابق فتخلف قومه عن القتال وأصلحوا فيما بينهم، فجمع شتاتهم وأنقذهم من الخلاف ببيت واحد، وكشف عليهم أنه فائز بمنزلة سامية تساوي الأشراف والنبلاء.
تبين من هجوه للبقلة عندما أراد قومه أن يبلوه أنه كان مشغوفًا بالشعر والأدب منذ نعومة أظفاره، ولقد بعثت فيه روح الشعر العربي العصبية، وأخذ منذ سال الشعر على لسانه ينظمه في الفخر بعشيرته والاعتداد بها اعتدادًا بالغًا.34 وهو أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية من أهل عالية نجد. 35 كان شعره أروع التعبير وأجمل التنسيق، يحتوي على أدق المعاني وأعمق المفاهيم. عدّ من فحول الشعراء في زمانه. يقول ابن عبد البر: لبيد بن ربيعة، وعلقمة بن علاثة العامريان من المؤلفة قلوبهم، وهو معدود في فحول الشعراء المجودين المطبوعين. 36 يروي هشام بن عروة عن أبيه، قال: قالت عائشة رضي اللّٰه عنها: رحم اللّٰه لبيدًا قال:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في نسل كجلد الأجرب
قال هشام: فكان أبي يقول: رحم اللّٰه عائشة، كيف لو أدركت زماننا هذا؟ 37 وقد اعترف له غير واحد من الشعراء والأدباء، وعدوه من أشعر الشعراء في زمانه.
لبيد كان من الرجال السعداء الذين نالوا رتبة عالية ومنزلة سامية بين عشيرته في الجاهلية، ويؤخذ برأيه في أمور مهمة، ثم أسلم على يد الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، فأصبح ذا فضل ونباهة. ويروى في إسلامه أنه قدم على النبي صلى اللّٰه عليه وسلم سنة وفد قومه بنو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، فأسلم وحسن إسلامه. 38 ذكر الحافظ ابن حجر: لما اشتد الجدب على مضر بدعوة النبي صلى اللّٰه عليه وسلم وفد عليه وفد قيس، وفيهم لبيد فأنشده:
أتيناك يا خير البريّة كلّها
لترحمنا ممّا لقينا من الأزل
أتيناك والعذراء تدمى لبانها
وقد ذهلت أمّ الصبي عن الطّفل
فإن تدع بالسّقيا وبالعفو ترسل
السّماء والأمر يبقى على الأصل 39
فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم، ثم قدم لبيد الكوفة وبنوه، فرجع بنوه إلى البادية بعد ذلك. 40
يبدو أن لبيدًا لم يترك الشعر تركا باتا، ولكن لم يكن ينشد الشعر إنشاد الجاهلية، وأكثر ما قاله بعد إسلامه مشتمل على البعث والنشور، روي عن الصدار بن حريث: قرئ علينا كتاب عمر بن الخطاب رضي اللّٰه عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي اللّٰه عنه: أما بعد، فاجمع من قبلك من الشعراء فسلهم، ماذا فقدوا من شعرهم؟ وما بقي منه؟ فجمعهم سعد، فسألهم عن ذلك، فكلهم زعم أنه أغزر ما كان شعرًا وأقدره عليه إلا لبيد، فإنه حلف بالذي هداه إلى الإسلام: ما قدرت على أن أقول بيتًا واحدًا منذ أسلمت، فكتب بذلك إلى عمر رضي اللّٰه عنه، فكتب إليه عمر رضي اللّٰه عنه: قد فهمت ما ذكرت، وإنه لم يدخل قلب رجل منهم الإيمان كدخوله قلب لبيد، فاعرفوا له حق الإسلام وكرامته والسلام، فلما كان بعد لقيه عمر رضي اللّٰه عنه فقال: يا لبيد ما فعلت:
عفت الديار محلها فمقامها
بمنى تأبد غولها فرجامها؟
قال: أبدلني اللّٰه بها يا أمير المؤمنين، خيرا منها. قال: ماذا؟ قال: سورة البقرة. قال: صدقت واللّٰه بها. 41 وفي رواية: قال له عمر بن الخطّاب رضي اللّٰه عنه: أنشدني من شعرك. فقرأ سورة البقرة. وقال: ما كنت لأقول شعرًا بعد إذ علّمني اللّٰه البقرة وآل عمران. فزاده عمر في عطائه خمسمائة درهم، وكان ألفين. 42 فكان اشتغاله بالقرآن أكثر منه بالشعر بعد إسلامه، ولم يشتغل به اشتغال الجاهلية وإن قاله بعدد قليل.
يمكن أن نقسم شعره قسمين: قسمًا جاهليًّا، وقسمًا إسلاميًّا، وهو في القسم الجاهلى لا يخرج إلى مديح أو هجاء، بل يمضي مفاخرًا فخرا عنيفا بآبائه وفتوته، معتدًّا اعتدادًا لا حدّ له بالأقربين من أسرته، واقرأ فيه فستجده دائمًا في هذا القسم مفاخرًا بقومه وشجاعتهم وبلائهم في الحروب وما لهم من مناقب جليلة حتى إذا أفضى إلى نفسه تحدث عن شمائله وتجشمه لسرى الليل بأصحابه وفتوته وكيف يسقى الخمر لداته، وكيف يقامر ليطعم الجائع المحروم. وكثيرا ما يهجم فى قصائده على هذا الفخر، وقد يقدم لذلك بمقدمات. 43 وإذا انتقلنا من هذا القسم إلى شعره الإسلامي وجدنا قراءته للقرآن الكريم تهذّب من لفظه، وتدخل عليه غير قليل من الطّلاوة، فقد تغلغل الإسلام في ضميره، فاتجه في أشعاره إلى ربه منيبًا إليه، والوجل يملأ نفسه من يوم الحساب الذى ينتظره. 44 يقول في قصيدة له:
إنما يحفظ التّقى الأبرار
وإلى اللّٰه يستقرّ القرار
وإلى اللّٰه ترجعون وعند اللّٰه
ورد الأمور والإصدار
كلّ شيء أحصى كتابًا وعلمًا
ولديه تجلّت الأسرار 45
فإنك تجده يتحدث عن التقوى والأبرار والعمل الصالح، وأن الناس معروضون على اللّٰه يوم القيامة، وقد أحصى كل شيء في كتاب، وأن الموت حق لا شك فيه، وأن على كل إنسان أن يفكر في مصيره. وشعره في الفترة الأولى يُلائم طباع العرب، منسجمًا مع أمزجتهم وأذواقهم مقابل شعره في الفترة الإسلامية، وذهب كثير من المؤرخين إلى أنه قد امتنع من الشعر في الإسلام. يقول ابن سعد: لم يقل لبيد في الإسلام شعرًا. 46 وكذا ذكره ابن عبد البر، 47 وعز الدين ابن الأثير الجزري. 48 وقال الحافظ ابن حجر: ما قال في الإسلام إلا بيتًا واحدًا. 49
كانت له قصيدة أنشدها في الجاهلية علقت على جدران بيت اللّٰه الشريف، وهي نموذج مثالي، وأروع شعر من أشعاره، وبها صار من أجلة الشعراء وأئمتهم عند العرب، ومطلع معلقته:
عفت الديار محلها فمقامها
بمنى تأبد غولها فرجامها 50
ومن أبياتها:
فمدافع الريّان عري رسمها
خلقا كما ضمن الوحيّ سلامها
دمن تجرّم بعد عهد أنيسها
حجج خلون حلالها وحرامها
رزقت مرابيع النّجوم وصابها
ودق الرواعد جودها فرهامها
من كلّ سارية وغاد مدجن
وعشيّة متجاوب إرزامها
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت
بالجلهتين ظباؤها ونعامها
والعين ساكنة على أطلائها
عوذا تأجّل بالفضاء بهامها 51
وفيها أبيات أخرى منسقة بترتيب مبتكر وأسلوب بديع، ومتألفة من أنفس الألفاظ، ومحتوية على أجمل المعاني. وبناء على ذلك علقت على بيت اللّٰه الشريف.
الأصل في الشعر أن يكون ظاهرًا واضحًا، تلوح فيه البلاغة والفصاحة. ومن أبرز الصفات في شعر لبيد أنه كان جامعا للبلاغة والفصاحة، وفي إنشاده حلاوة وطلاوة. وكان لبيد عذب المنطق، رقيق حواشي الكلام. 52 قليل الألفاظ كثير المعاني، وهذه كانت ميزة الخطباء العرب. وكان لبيد من خطباء العرب في زمانه. 53 والذين يقدمون لبيدا في الشعر على الآخرين يقولون: هو أفضلهم في الجاهلية والإسلام، وأقلهم لغوًا في شعره. 54 وقد قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم فيما رواه أبوهريرة رضي اللّٰه عنه: (( أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا اللّٰه باطل )). وهو شعر حسن. وفي هذه القصيدة ما يدل على أنه قالها في الإسلام. واللّٰه أعلم. 55 وهذا فرزدق سجد لشعره، مر يوما بمسجد بني أقيصر وعليه رجل ينشد قول لبيد:
وجلا السيول عن الطلول كأها
زبر تجد متونها أقلامها
فسجد الفرزدق. فقيل له: ما هذا يا أبا فراس؟ فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر. 56
كان لبيد من الذين يشار إليهم بالبنان في الشعر الفصيح البليغ إلا أن شعره الجاهلي كان دائمًا على هذه الوتيرة من الحديث عن مناقب آبائه ومفاخره ووصف راحلته وتشبيهها بالأتان المتوجسة والبقرة المسبوعة أو النعامة الخائفة، وقد يتحدث عن المطر، وهو فى ذلك كله يتميز بالإغراب الشديد في لفظه، حتى ليمس قارئه شيئا من الضجر؛ لكثرة ما يورد من أوابد الألفاظ وحوشيها. أما شعره الإسلامي فستجد الروح الإسلامية ماثلة في تضاعيف أبياتها. 57
كانت للبيد طبيعة جيدة وقريحة طيبة في الجاهلية، كان واسع الصدر واسع اليدين، معروفا بالجود والسخاء. كان جوادا شريفا في الجاهلية والإسلام، وكان قد آلى في الجاهلية أن يطعم ما هبت الصبا، ثم أدام ذلك في إسلامه. ونزل لبيد الكوفة، وأميرها الوليد بن عقبة، فبينا هو يخطب الناس إذ هبت الصبا بين ناحية المشرق إلى الشمال. فقال الوليد في خطبته على المنبر: قد علمتم حال أخيكم أبي عقيل، وما جعل على نفسه أن يطعم ما هبت الصبا، وقد هبت ريحها، فأعينوه، ثم انصرف الوليد، فبعث إليه بمئة من الجزر. 58
لبيد عمّر عمرا طويلا، وأدرك زمنا مديدا. لما حضرته الوفاة قال لابنه: إن أباك قد توفي، فإذا قبض أبوك، فأغمضه واستقبل به القبلة، وسجه بثوبه، ولا تصح عليه صائحة، ولا تبك عليه باكية. فإذا فرغوا فقل: احضروا جنازة أخيكم لبيد. 59 مات عام واحد وأربعين من الهجرة يوم دخل معاوية رضي اللّٰه عنه الكوفة، وعمره مئة سنة وسبع وخمسون سنة، وقيل: مات في خلافة عثمان رضي اللّٰه عنه، وله صحبة. 60 كان مقيما في كوفة إلى أن مات بها، فدفن في صحراء بني جعفر بن كلاب. 61
حكيت أقوال مختلفة في طول عمره، والأقرب إلى القياس أنه تجاوز مئة سنة سواءً كان بعشر سنين أو أقل أو أكثر؛ فإنه ولد عام خمسمائة وستين للميلاد تقريبًا، وتوفي عام واحد وأربعين من الهجرة، والمدة بين هذين التاريخين مئة وبضع. ومهما كان عمره فقد أدرك الجاهلية والإسلام، وكان له في كلتا الفترتين شرف وفضل، وشأن ومقام، وجاه وسلطان. قضى طيلة حياته الجاهلية في العشر، ولما بعث الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم وهاجر إلى المدينة المنورة فطارت سمعته في أنحاء العرب، وأتى لبيد إلى الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم في وفد بني كلاب وأسلم. وقد ترك للأجيال القادمة فكرةً سامية بأن الإنسان يجب عليه أن يتمكن من البراعة في فن وشغل يحبه، وتكون له فيه قدم راسخة، إلا أن المحاسن والمحامد التي يكتسبها الإنسان بالبراعة والمهارة في الفنون الدنيوية ستزول في أسرع وقت، فليست البراعة في الفنون نجاحا حقيقيا. وإنما النجاح في الدنيا والآخرة هو الإيمان بتوحيد اللّٰه وربوبيته، وبنبوة محمد صلى اللّٰه عليه وسلم، والعمل بما جاء به النبي صلى اللّٰه عليه وسلم. ولا بد من التخلق بأخلاق حسنة وأوصاف حميدة وإلا فالإنسان ليس بشيء دون ذلك في الدنيا ولا في الآخرة، وقد بعث الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم ليدعو البشرية جمعاء إلى الإيمان باللّٰه ورسوله، والعمل بالشريعة الإسلامية والتخلق بالخلق الفاضلة، والمكارم الحسنة، ليتحقق نجاحه ونجاته في الدنيا والآخرة.