أيام العرب هي حروب وقعت بين القبائل العربية أو وقعت بينهم وبين البلاد الأخرى، ولها أثر كبير في دراسة تاريخ العرب كأنها مرجع أساسي لتاريخهم، بها تعرف أخلاقهم وأطوارهم القديمة، وبها تعرف محاسنهم ومساوئهم، أعرافهم وعاداتهم، وهم أيضًا كانوا يهتمون بحفظ هذه الأيام، يحفظونها ويعلمونها أولادهم. وقد وقعت هذه الأيام والحروب لأسباب عديدة، نحو الحمية الجاهلية والعصبية، والثأر والحسد، والشحناء والبغضاء فيما بينهم، والتفاخر والتنافر في الأحساب والأنساب، وأحيانًا وقعت لنهب الغنائم والأموال، وللبداوة أثر بالغ فيها، ولذلك وقوعها في القبائل العدنانية أكثر مما كان في القبائل القحطانية.
العرب تقول الأيام في معنى الوقائع. قال شمر: جاءت الأيام بمعنى الوقائع والنعم. 1 وفي معنى الوقائع والحروب نزلت في القرآن: وَتِلْكَ الْاَيَّامُ نُدَاوِلُھَا بَيْنَ النَّاسِ 2 فالحروب والمناوشات التي وقعت بين القبائل بعضها مع بعض، أو بين ملوك اليمن والقبائل، أو بين الفرس والعرب، أو بين الملوك العرب والقبائل عرفت بالأيام وبأيام العرب. 3 فهي الوقائع والحروب التي نشبت بين القبائل العربية في الجاهلية. 4
تعتبر أيام العرب في الجاهلية مصدرا خصيبا من مصادر التأريخ للعلاقات التي كانت سائدة بين القبائل العربية، كما أنها بما روي في أثنائها من مأثور الكلام ورائع النثر وحماسي الشعر، وبما اشتملت عليه من طريف القصص، وما تخللها من بيان للطبائع والتقاليد البدوية، تعتبر ينبوعًا من ينابيع الأدب، وبابًا كبيرًا من أبوابه، ومرآة تعكس أحوال العرب وعقليتهم، وعاداتهم وتقاليدهم في الحرب والسلم والأسر والفداء، كما تنبئ بفضائلهم وشيمهم التي فطروا عليها، كالشهامة والوفاء بالعهد وحماية الجار والانتصار للقبيلة والصدق والصبر في القتال. 5 ومادة هذه الأيام عربية خالصة، وعلى هذه المادة العربية يعتمد المؤرخون في تدوين تاريخ العرب في الجاهلية، وتتبع التطورات السياسية التي حدثت قبيل الإسلام. 6 بالإضافة إلى ذلك نطلع من خلال أيام العرب على التاريخ القديم، والأدب العربي، والتراث الجاهلي؛ فإنها مورد أقاصيص المغاوير من الأبطال وساحة بطولاتهم، بل إنها سبيل لفهم ما وقع بين العرب بعد الإسلام من حروب شجرت بين القبائل، ووقائع كانت بين البطون والأفخاذ والعشائر، ولم تخل عن زعماء قبائل ورؤساء عشائر، كانوا في زعامتهم ورئاستهم مثلا عليا في فصاحة الرأي وإصابة المحز، والتهدي إلى مواطن الصواب، ولها أثر كبير في مناوشات ومهاترات ومنافرات ومخالفات ونزاعات وغزوات وقتلات وهجمات وغارات ما زالت تبرز على مسرح التاريخ حتى بعد طلوع فجر الإسلام.
هذه الأيام غير منسقة ويا للأسف، ولا مبوبة على حسب ترتيب الوقوع، وتسلسل الزمن، بل كان العرب يتناقلونها جيلا عن جيل، ولذلك كانت أنسابهم وأحسابهم، وقصص مغاويرهم الأبطال وأحداث مساعير الحروب، محفوظة لديهم، ولا يقصدون بذلك إلا إبقاء عظمتهم ورفعتهم، وحميتهم وعصبيتهم، حتى ولو انهزموا في حرب فذكّروه أولادهم؛ ليأخذوا ثأرهم يومًا مّا. وهذه الأيام تؤلف القسط الأكبر من علم الأخباريين بتاريخ الجاهلية، ومادتها القصص الذي تناقلها الناس عمن شهدوها، وحفظوها في صدورهم إلى أن كان التدوين فدوّن، وهو مادة محبوبة تناولها الناس في الجاهلية والإسلام بلذة وشوق، فكانت هي والشعر الجاهلي من أهم المجالس. 7
هذه الأيام كثيرة، وقع في عددها اختلاف بين المؤرخين، ولهم آراء تختلف باختلاف طبائعهم وقرائحهم، فذكر بعضهم أشهر الأيام، ومنهم من ذكر أعظمها. فمن نظر إلى كثرتها وشمولها قال: إنها كثيرة كثرة لا يسعها كتاب مستقل. وقالوا: أيام العرب ووقائعها كثيرة لا يحويها كتاب مفرد ولو أسهب جامعه. 8 وقد استقصى الأصبهاني أيام العرب في كتاب أفرده لذلك، فكانت أيامه ألفا وسبعمائة يوم. 9 وقد روي أن بعض المؤرخين القدامى قد ألفوا فيها كتبا خاصة، بعضها تضمن سبعمائة وخمسين يوما أو ألفا ومائتي يوم. 10 ونظر بعضهم إلى شهرتها وسمعتها وطول مدتها فقالوا: أيام العرب ثلاثة: يوم جبلة، وهو الأول، ويوم الكلاب الثاني، ويوم ذي قار بين بكر بن وائل والفرس. 11
لاشك في كثرتها؛ لأن العرب كانوا قومًا تقع فيهم الحروب لأتفه الأسباب، يتنافرون في المواسم والأفراح فيختلفون ثم يستمرون على ذلك حتى كثرت المنافرات والغارات، والمناقشات والمناوشات.
هذه الأيام ليست حروبا بالمعنى المفهوم من الحرب، فإن منها ما هو مجرد مناوشات أو مهاترات وغزوات لم يسقط فيها إلا بضعة أشخاص. 12 وقد يحتدم بعضها احتداما شديدا، فيربو عدد ضحاياها على المئات، وقد تشترك فيها عدة قبائل متحالفة في كل جانب، أو قد تقتصر على قبيلتين تتقاتلان، وقد تدوم مدة طويلة تصل أحيانًا إلى أربعين سنةً، تكون فيها الوقائع متقاربةً أو متباعدةً، يفصل بين الواحدة والأخرى سنون عديدة؛ إذ تثار حينما تتجدد المناسبات، أو قد لا تدوم سوى أيام، أو أسابيع قليلة. 13
أما أسباب تلك الحروب فأحيانا ما تكون تافهة، مثال أن تنشب حرب تدوم أربعين سنةً بين عبس وذبيان بسبب سباق خيل، أو تنشب حرب كأحد أيام الفجار بسبب تحقير رجل لآخر لم يؤد ما عليه من دين له في ذمته، أو كأن تنشب أخرى من هذه الحروب بسبب جهالة من رجل يفتخر بقومه قائلًا: من كان يعرف نفسه أعز قبيلا مني فليضرب هذه الرجل بسيفه، ويمد رجله فيضربها رجل من قبيلة أخرى فيقطعها، وتقع الحرب بين القبيلتين، غير أنها لم تكن تنشب دوما لأسباب تافهة، بل ترجع في أحيان أخرى إلى أسباب اقتصادية، كحرب البسوس، أو كحرب الأوس والخزرج في المدينة، وكانت سياسية اقتصادية، أو قد تكون لبواعث أجنبية ناشئة عن النفوذ البيزنطي والفارسي. 14 وأكثر أسباب هذه الأيام، هو عسف حكام القبائل القوية في القبائل الضعيفة الخاضعة لهم، بسبب الإتاوة التي كانوا يلحون في جبايتها غير مفكرين في الظروف والأوقات، أو بسبب نزاع على ماء ومرعى، أو أخذ بثأر، أو محاولة للتخلص من حكم القبائل على القبيلة بظهور شخصية قوية فيها، وأمثال هذه من أسباب قد يكون بينها سبب تافه سخيف، يؤدي إلى إزعاج المتخاصمين بسبب النزعات العاطفية التي تتغلب عند القبائل في غالب الأحوال على العقول. 15 وتنشأ في الغالب بين القبائل بسبب النزاع على الماشية أو المراعي أو المياه. 16
كانت العادة أن يعنون اليوم باسم الموضع الذي حدثت فيه المعركة، أو بالشيء البارز في تلك الحرب، أو باسم القبائل التي اشتركت فيه. 17 نحو: يوم ذي قار، ويوم عين أباغ، ويوم نسار وغيرها سميت باسم الموضع. ويوم الصفقة، وحرب الفجار وغيرها سميت باسم أمر بارز فيها. وأيام الأوس والخزرج نسبت إلى قبائل شاركت فيها.
لقد حاول المستشرقون تنسيقها وترتيبها على أساس تواريخ الوقوع، فلم يفلحوا إلى الآن في الوصول إلى نتيجة مرضية. 18 ولا يمكن تصنيف هذه الأيام تصنيفًا يراعي تسلسل وقوعها زمنيًا، بل إنما يمكن أن نعطي كشفًا عن أهمها بحسب الفئات التي اشتركت فيها. 19 فنذكر بعضها فيما يلي:
من هذه الأيام ما وقع بين قبائل قحطانية، ومنها ما وقع بين قبائل عدنانية، ومنها ما وقع بين قبائل يرجع النسابون نسبها إلى مضر وربيعة، وإلى معد، وإلى عدنان، فهي أيام وقعت إذن بين جماعتين، هما في عرف النسابين من جدين، هما: قحطان وعدنان، وهما جدا كل العرب الأحياء. 20
أيام القبائل القحطانية
وقعت بين القبائل القحطانية حروب كثيرة، استمرت إلى أزمان طويلة، وتفصيلها فيما يلي.
كان من حديثه أن زياد بن الهبولة ملك الشام، وكان من سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، أغار على حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث الكندي، ملك عرب بنجد ونواحي العراق وهو يلقب آكل المرار، وكان حجر قد أغار في كندة وربيعة على البحرين، فبلغ زيادا خبرهم، فسار إلى أهل حجر وربيعة وأموالهم، وهم خلوف ورجالهم في غزاتهم المذكورة، فأخذ الحريم والأموال، وسبى فيهم هندا بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية، وسمع حجر وكندة وربيعة بغارة زياد، فعادوا عن غزوهم في طلب ابن الهبولة، ومع حجر أشراف ربيعة عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وغيرهما، فأدركوا عمرًا بالبردان دون عين أباغ وقد أمن الطلب، فنزل حجر في سفح جبل، ونزلت بكر وتغلب وكندة مع حجر دون الجبل بالصحصحان على ماء يقال له حفير، فتعجل عوف بن محلم وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان. وقالا لحجر: إنا متعجلان إلى زياد لعلنا نأخذ منه بعض ما أصاب منا، فسارا إليه، وكان بينه وبين عوف إخاء، فدخل عليه. وقال له: يا خير الفتيان، اردد علي امرأتي أمامة. فردها عليه، وهي حامل، فولدت له بنتا أراد عوف أن يئدها فاستوهبها منه عمرو بن أبي ربيعة. وقال: لعلها تلد أناسا، فسميت أم أناس، فتزوجها الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، فولدت عمرا، ويعرف بابن أم أناس، ثم إن عمرو بن أبي ربيعة قال لزياد: يا خير الفتيان، اردد علي ما أخذت من إبلي، فردها عليه وفيها فحلها، فنازعه الفحل إلى الإبل، فصرعه عمرو. فقال له زياد: يا عمرو لو صرعتم - يا بني شيبان- الرجال كما تصرعون الإبل لكنتم أنتم أنتم! فقال له عمرو: لقد أعطيت قليلا، وسميت جليلا، وجررت على نفسك ويلًا طويلًا، ولتجدن منه، ولا واللّٰه، لا تبرح حتى أروي سناني من دمك، ثم ركض فرسه حتى صار إلى حجر، فلم يوضح له الخبر. 21
فأقبل حجر في أصحابه حتى إذا كان بمكان يقال له الحفير، أرسل سدوس بن شيبان وصليع بن عبد غنم يتجسسان له الخبر، ويعلمان علم العسكر، فخرجا حتى هجما على عسكره ليلًا، وقد قسم الغنيمة، وأطعم الناس تمرا وسمنا. فلما أكل نادى: من جاء بحزمة حطب فله فدرة تمر، فجاء سدوس وصليع بحطب، فناولهما تمرًا، وجلسا قريبًا من قبته، ثم انصرف صليع إلى حجر فأخبره بعسكر زياد، وأراه التمر، وأما سدوس فقال: لا أبرح حتى آتيه بأمر جلي، وجلس مع القوم يتسمع ما يقولون: هند امرأة حجر خلف زياد. فقالت لزياد: إن هذا التمر أهدي إلى حجر من هجر، والسمن من دومة الجندل، ثم تفرق أصحاب زياد عنه فضرب سدوس يده إلى جليس له. وقال له: من أنت؟ مخافة أن يستنكره الرجل. فقال: أنا فلان ابن فلان، ودنا سدوس من قبة زياد بحيث يسمع كلامه. 22 ودنا زياد من امرأة حجر، فقبلها وداعبها. وقال لها: ما ظنك الآن بحجر؟ فقالت: ما هو ظن، ولكنه يقين، إنه واللّٰه لن يدع طلبك حتى تعاين القصور الحمر، يعني قصور الشام، وكأني به في فوارس من بني شيبان يذمرهم ويذمرونه، وهو شديد الكلب تزبد شفتاه كأنه بعير أكل مرارا، فالنجاء النجاء! فإن وراءك طالبا حثيثا، وجمعا كثيفا، وكيدا متينا، ورأيا صليبا، فرفع يده فلطمها، ثم قال لها: ما قلت هذا إلا من عجبك به وحبك له. فقالت: واللّٰه، ما أبغضت أحدا بغضي له، ولا رأيت رجلا أحزم منه نائمًا ومستيقظًا، إن كان لتنام عيناه فبعض أعضائه مستيقظ، وكان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عسا من لبن، فبينا هو ذات ليلة نائم وأنا قريب منه أنظر إليه، إذ أقبل أسود سالخ إلى رأسه فنحى رأسه، فمال إلى يده فقبضها، فمال إلى رجله فقبضها، فمال إلى العس فشربه ثم مجه، فقلت: يستيقظ فيشربه فيموت فأستريح منه فانتبه من نومه فقال: علي بالإناء، فناولته فشمه ثم ألقاه فهريق. فقال: أين ذهب الأسود؟ فقلت: ما رأيته، فقال: كذبت واللّٰه، وذلك كله يسمعه سدوس. 23
فلما نامت الأحراس خرج سدوس يسري ليلته حتى صبح حجرا، وقص عليه ما سمع، فأسف ونادى بالرحيل، فساروا حتى انتهوا إلى عسكر ابن الهبولة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم أصحاب ابن الهبولة، وقتلوا قتلا ذريعا، واستنقذت بكر وكندة ما كان بأيديهم من الغنائم والسبي، وعرف سدوس زيادا، فحمل عليه فاعتنقه وضرعه، وأخذه أسيرًا، فلما رآه عمرو بن أبي ربيعة حسده فطعن زيادًا فقتله، فغضب سدوس وقال: قتلت أسيري، وديته دية ملك، فتحاكما إلى حجر فحكم على عمروا وقومه لسدوس بدية ملك، وأعانهم من ماله، وأخذ حجر زوجته هندا فربطها في فرسين، ثم ركضهما حتى قطعاها. 24
كان الحارث بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار، قد ملك الحيرة في أيام قباذ بن فيروز ملك الفرس لدخوله في دين المزدكية الذي دعاه إليه، بعد أن نفى المنذر بن ماء السماء عنها، واشتغل بالحيرة عما كان يراعيه من أمور البوادي، فتفاسدت القبائل من نزار، فأتاه أشرافهم، وشكوا إليه ما حل بهم من غلبة السفهاء، وحكم الأقوياء، وطلبوا إليه أن يملك أبناءه عليهم، فملّك ابنه حجرًا على بني أسد وغطفان، وابنه شرحبيلًا على بكر بن وائل بأسرها وعلى بني حنظلة، وملّك ابنه معديكرب على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد، وملك ابنه سلمة على قيس عيلان، ثم إن الحارث خرج يتصيد فرأى جماعة من حمر الوحش فشد عليها، وانفرد منها حمار فتتبعه، وأقسم ألا يأكل شيئًا قبل كبده، فطلبته الخيل ثلاثة أيام حتى أدركته، وأتى به، وقد كاد يموت من الجوع، ثم شوى على النار وأطعم من كبده وهي حارة فمات. 25
فلما هلك الحارث تشتت أمر أولاده، وتفرقت كلمتهم، ومشى بينهم الرجال، وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع، وزحف إليه بالجيوش، فسار شرحبيل فيمن معه من الجيوش فنزل الكلاب، وهو ماء بين البصرة والكوفة، وأقبل سلمة فيمن معه وفي الصنائع أيضًا، وهم قوم كانوا مع الملوك من شذاذ العرب، فأقبلوا إلى الكلاب، وعلى تغلب السفاح بن خالد بن كعب بن زهير، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وثبت بعضهم لبعض، فلما كان آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل وانهزموا، وثبتت بكر وانصرفت بنو سعد ومن معها عن تغلب وصبرت تغلب. ونادى منادي شرحبيل: من أتاني برأس سلمة فله مئة من الإبل. ونادى منادي سلمة: من أتاني برأس شرحبيل فله مئة من الإبل، فاشتد القتال حينئذ كل يطلب أن يظفر لعله يصل إلى قتل أحد الرجلين ليأخذ مئة من الإبل، فكانت الغلبة آخر النهار لتغلب وسلمة، ومضى شرحبيل منهزمًا، فتبعه ذو السنينة التغلبي، فالتفت إليه شرحبيل فضربه على ركبته فأطن رجله، وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه. فقال لأخيه: قتلني الرجل، وهلك ذو السنينة. فقال أبو حنش لشرحبيل: قتلني اللّٰه إن لم أقتلك، وحمل عليه فأدركه. فقال: يا أبا حنش، اللبن اللبن! يعني الدية، فقال: قد هرقت لبنا كثيرا. فقال: يا أبا حنش أملكا بسوقة؟ فقال: إن أخي ملكي، فطعنه فألقاه عن فرسه، ونزل إليه فأخذ رأسه وبعث به إلى سلمة مع ابن عم له، فأتاه به وألقاه بين يديه. فقال سلمة: لو كنت ألقيته أرفق من هذا، وعرفت الندامة في وجه سلمة والجزع عليه، فهرب أبو حنش منه. 26 ثم نظر سلمة إلى رأس أخيه وبكى وقال:
ألا أبلغ أبا حنش رسولا
فما لك لا تجيء إلى الثواب
تعلم أن خير الناس طرا
قتيل بين أحجار الكلاب
تداعت حوله جشم بن بكر
وأسلمه جعاسيس الرباب
وبلغت الأبيات أبا حنش فقال مجيبا:
أحاذر أن أجيشك ثم تحبو
حباء أبيك يو صنيبعات
فكانت غدرة شنعاء تهفو
تقلدها أبوك إلى الممات.27
كان من حديثه أن المنذر بن ماء السماء ملك العرب سار من الحيرة في معد كلها حتى نزل بعين أباغ بذات الخيار، وأرسل إلى الحارث الأعرج بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر الغساني ملك العرب بالشام: إما أن تعطيني الفدية فأنصرف عنك بجنودي، وإما أن تأذن بحرب. فأرسل إليه الحارث: أنظرنا ننظر في أمرنا. فجمع عساكره، وسار نحو المنذر وأرسل إليه يقول له: إنا شيخان، فلا نهلك جنودي وجنودك؛ ولكن يخرج رجل من ولدي ويخرج من ولدك، فمن قتل خرج عوضه آخر، وإذا فني أولادنا خرجت أنا إليك، فمن قتل صاحبه ذهب بالملك، فتعاهدا على ذلك، فعمد المنذر إلى رجل من شجعان أصحابه فأمره أن يخرج فيقف بين الصفين، ويظهر أنه ابن المنذر، فلما خرج أخرج إليه الحارث ابنه أبا كرب، فلما رآه رجع إلى أبيه، وقال: إن هذا ليس بابن المنذر، إنما هو عبده أو بعض شجعان أصحابه، فقال: يا بني، أجزعت من الموت؟ ما كان الشيخ ليغدر، فعاد إليه، وقاتله فقتله الفارس، وألقى رأسه بين يدي المنذر. وعاد فأمر الحارث ابنا له آخر بقتاله والطلب بثأر أخيه، فخرج إليه، فلما واقفه رجع إلى أبيه. وقال: يا أبت، هذا واللّٰه عبد المنذر. فقال: يا بني، ما كان الشيخ ليغدر، فعاد إليه فشد عليه فقتله. فلما رأى ذلك شمر بن عمرو الحنفي، وكانت أمه غسانية، وهو مع المنذر، قال: أيها الملك، إن الغدر ليس من شيم الملوك ولا الكرام، وقد غدرت بابن عمك دفعتين، فغضب المنذر وأمر بإخراجه، فلحق بعسكر الحارث فأخبره. فقال له: سل حاجتك، فقال له: حلتك وخلتك، فلما كان الغد عبى الحارث أصحابه وحرضهم، وكان في أربعين ألفًا، واصطفوا للقتال، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل المنذر وهزمت جيوشه، فأمر الحارث بابنيه القتيلين فحملا على بعير بمنزلة العدلين، وجعل المنذر فوقهما فودا. وقال: "يا لعلاوة دون العدلين "، فذهبت مثلًا، وسار إلى الحيرة فأنهبها وأحرقها ودفن ابنيه بها، وبنى الغريين عليهما. 28 وكانت من الأيام والحروب التي وقعت بين القبائل القحطانية يوم حليمة، ويوم يحاميم، وأيام الأوس والخزرج، وغيرها حروب اشتهرت على مسرح التاريخ.
حدثت حروب بين القبائل القحطانية والعدنانية، وذكر بعضها فيما يلي.
هو من الأيام القديمة، وسببه أن القبائل العدنانية قد امتعضت من قدوم القبائل القحطانية من الجنوب إلى الشمال، ومنافستها على الماء والمرعى، فلما جاءت قبيلة مذحج، القحطانية من اليمن، وقصدت متسعا من الأرض في سهل تهامة، الذي اعتبر في عرف الأخباريين موطنًا لقبائل معد من قديم الزمن، اصطدمت بهذه القبائل، فبرزت لها قبيلة عدوان وزعيمها يومئذ عامر بن الظرب العدواني، الذي اجتمعت قبائل معد بأسرها تحت لوائه، فهاجم القبيلة اليمنية القادمة وهزمها في موقع "البيضاء". والأخباريون يعدون عامر بن الظرب من حكام العرب القدماء المبرزين، يأتيه الناس؛ ليحكم بينهم، وصارت أحكامه سنة يتبعونها، وقد عرف بعقله وحكمته، وكون أقواله قد جعلت مضربًا للأمثال. وقيل: إنه أول من قال بتحريم الخمر قبل الإسلام. وذكر الأخباريون: إن يوم البيضاء هو أول يوم اجتمعت فيه سائر قبائل معد تحت راية واحدة، ثم اجتمعت بعدئذ مرتين: المرة الأولى تحت راية ربيعة بن الحارث، والمرة الثانية تحت راية كليب بن ربيعة. 29
هو لبني يربوع على عساكر النعمان بن المنذر. قال أبو عبيدة: وكان سبب هذه الحرب أن الردافة، وهي بمنزلة الوزارة، وكان الرديف يجلس عن يمين الملك، كانت لبني يربوع من تميم يتوارثونها صغيرا عن كبير، فلما كان أيام النعمان، وقيل: أيام ابنه المنذر، سألها حاجب بن زرارة الدارمي التميمي النعمان أن يجعلها للحارث بن بيبة بن قرط بن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي. فقال النعمان لبني يربوع في هذا، وطلب منهم أن يجيبوا إلى ذلك. فامتنعوا، وكان منزلهم أسفل طخفة، فحيث امتنعوا من ذلك بعث إليهم النعمان قابوس ابنه وحسانا أخاه ابني المنذر، قابوس على الناس، وحسان على المقدمة، وضم إليهما جيشًا كثيفًا، منهم الصنائع والوضائع وناس من تميم وغيرهم، فساروا حتى أتوا طخفة فالتقوا هم ويربوع واقتتلوا، وصبرت يربوع وانهزم قابوس ومن معه، وضرب طارق أبو عميرة فرس قابوس فعقره وأسره، وأراد أن يجز ناصيته. فقال: إن الملوك لا تجز نواصيها، فأرسله. وأما حسان فأسره بشر بن عمرو بن جوين فمن عليه وأرسله، فعاد المنهزمون إلى النعمان، وكان شهاب بن قيس بن كياس اليربوعي عند الملك. فقال له: يا شهاب، أدرك ابني وأخي، فإن أدركتهما حيين فلبني يربوع حكمهم، وأرد عليهم ردافتهم، وأترك لهم من قتلوا وما غنموا، وأعطيهم ألفي بعير، فسار شهاب فوجدهما حيين فأطلقهما، ووفى الملك لبني يربوع بما قال، ولم يعرض لهم في ردافتهم، وقال مالك بن نويرة:
ونحن عقرنا مهر قابوس بعدما
رأى القوم منه الموت والخيل تلجب
عليه دلاص ذات نسج وسيفه
جران من الهندي أبيض مقضب
طلبنا بها إنا مداريك نيلها
إذا طلب الشأو البعيد المغرب.30
يوم كان بين المنذر بن امرئ القيس وبين بكر بن وائل، وكان سببه أن تغلب لما أخرجت سلمة بن الحارث عنها، التجأ إلى بكر بن وائل، فلما صار عند بكر أذعنت له وحشدت عليه. وقالوا: لا يملكنا غيرك، فبعث إليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته، فأبوا ذلك، فحلف المنذر ليسيرن إليهم، فإن ظفر بهم فليذبحنهم على قلة جبل أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض، وسار إليهم في جموعه، فالتقوا بأوارة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وأجلت الواقعة عن هزيمة بكر، وأسر يزيد بن شرحبيل الكندي، فأمر المنذر بقتله، فقتل، وقتل في المعركة بشر كثير، وأسر المنذر من بكر أسرى كثيرة، فأمر بهم فذبحوا على جبل أوارة، فجعل الدم يجمد. فقيل له: أبيت اللعن! لو ذبحت كل بكري على وجه الأرض لم تبلغ دماؤهم الحضيض؛ ولكن لو صببت عليه الماء، ففعل فسال الدم إلى الحضيض، وأمر النساء أن يحرقن بالنار. 31 وكان رجل من قيس بن ثعلبة منقطعًا إلى المنذر، فكلمه في سبي بكر بن وائل، فأطلقهن المنذر، فقال الأعشى يفتخر بشفاعة القيسي إلى المنذر في بكر:
ومنا الذي أعطاه بالجمع ربه
على فاقة وللملوك هباتها
سبايا بني شيبان يوم أوراة
على النار إذ تجلى به فتيانها.32
بالإضافة إلى ذلك كانت أيام أخرى أيضًا وقعت بين القحطانيين والعدنانيين، منها: يوم أوراة الثاني، ويوم خزاز، ويوم حجر ويوم الكلاب الثاني، ويوم فيف الريح، ويوم ظهر الدهناء. هذا ما أسلفناه كان بيانًا لنوعين من أيام العرب، وهما أيام وقعت بين القبائل القحطانية، وأيام وقعت بين القحطانيين والعدنانيين. وهناك نوع ثالث، وهي أيام وقعت بين القبائل العدنانية، وتفصيلها فيما يلي.
إن الأيام التي وقعت في القبائل العدنانية أكثر عددا من الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية، وسبب ذلك هو أنها أكثر بداوة وأعرابية من القبائل الثانية. 33 فمن الحروب التي وقعت بين العدنايين ما كان بين فرعي القيسية: ربيعة ومضر، ومنها ما كان بين قبائل ربيعة بعضها مع بعض، أو بين قبائل مضر. 34 ومنها ما وقع بين ربيعة وتميم، ومنها ما وقع بين قبائل قيس فيما بينها، ومنها ما وقع بين قيس وكنانة، ومنها ما وقع بين قيس وتميم، ومنها أيام ضبة وغيرهم. 35 وتفصيلها على النحو التالي:
وهي عبارة عن حروب وقعت بين قبائل ربيعة من العدنانيين، وعلى رأسها حرب البسوس التي استمرت إلى سنين متواصلة وتسبب لحروب عديدة.
وقعت حرب البسوس بين بكر وتغلب من ربيعة، ودامت سنين طويلة، ولم تكن حربا واحدة، بل هي حروب عدة، وقعت في أوقات متقطعة، وسببها أن وائل بن ربيعة المعروف بلقب كليب من تغلب، قد بلغ مبلغا عظيمًا من السيادة والنفوذ -لا سيما إثر انتصاره في يوم خزار- حيث اجتمعت تحت رايته كل قبائل معد فتوّجته، وقد حاز من الجاه والعظمة ما جعل المثل يضرب بعزته، فيقال: أعز من كليب وائل. 36 وغبر بذلك حينا من دهره، ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه لما هو فيه من عزة وانقياد معد له حتى بلغ من بغيه، أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالًا له، ولا يحتبي أحد في مجلسه غيره، ولا يغير إلا بإذنه، ولا تورد إبل أحد مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، ولم يكن بكري ولا تغلبي يجير رجلا ولا بعيرا أو يحمي حمىً إلا بأمره. 37 فكان سبب الحرب إذن اقتصاديًا، بالإضافة إلى غطرسة كليب وغروره، وكان كليب متزوجًا من امرأة من بكر اسمها "جليلة بنت مرة" أخت جساس بن مرة من شيبان. وصدف أن رجلًا نزل ضيفًا على البسوس خالة جساس، وكان للضيف ناقة ترعى مع نوق جساس في حمى كليب، فأنكرها كليب، وحذر جساسا من أن عودة هذه الناقة إلى حماه سيدعوه إلى قتلها، فلم يكن من جساس إلا أن هدده بالقتل إن فعل ذلك، ولما رأى كليب ناقة الضيف ترعى بعدئذ في حماه مع نوق جساس، رماها بسهم أنفذه إلى ضرعها. فصاح صاحبها لما علم بذلك: "يا للذل". وصرخت البسوس على صراخه: "وا ذلاه". فأسكتها جساس قائلًا بأنه سيقتل بالناقة جملًا أعظم منها، يعني بذلك صهره كليبا، وفعلاً نفذ وعيده، فاغتنم غفلةً من كليب، وطعنه برمح في ظهره فقتله. وفي رواية: إن ليس جساس هو الذي رمى كليبا، بل كان في صحبته ابن عمه المزدلف عمرو بن أبي ربيعة، وأن عمرا هذا هو الذي طعن كليبا وحطم صلبه. 38
وفي رواية: إن قتله كان لشدة طغيانه على بكر قبيلة جساس؛ إذ منعها من ارتياد الماء، فمرت بكر بن وائل على نهي يقال له شبيث، فنفاهم كليب عنه. وقال: لا يذوقون منه قطرةً، ثم مروا على نهي آخر يقال له الأحص. فنفاهم عنه وقال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مروا على بطن الجريب، فمنعهم إياه، فمضوا حتى نزلوا الذنائب، واتبعهم كليب وحيه حتى نزلوا عليه، فمر عليه جساس ومعه ابن عمه عمرو بن الحارث بن ذهل، وهو واقف على غدير الذنائب. فقال له: طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشا. فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون. فقال له: هذا كفعلك بناقة خالتي. فقال له: أو قد ذكرتها، أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة لاستحللت تلك الإبل بها، فعطف عليه جساس فرسه، فطعنه برمح فأنفذ حضنيه من دون الإبط إلى الكشح. 39 فلما تداءمه الموت قال: يا جساس، اسقني من الماء. قال: ما عقلت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمك إلا ساعتك هذه، وهو يشير بذلك إلى أن كليبًا قد منع قوم جساس الماء طوال حكمه، وجساس لم يمنعه إياه إلا هذه الساعة، وقد عطف المزدلف عمرو بن أبي ربيعة بعدئذ على رأس كليب فاحتزه، وفي هذه الرواية دليل على تغلب السبب الاقتصادي على حرب البسوس، وأن ما فعله جساس لم يكن سوى تعبير عن ثورة عامة ضد عسف كليب واستبداده. 40
عندئذ هب المهلهل، أخو كليب -وهو الشاعر الفارس المعروف- للأخذ بثأر أخيه، فجز شعره وقصر ثوبه، وحرم على نفسه اللّٰهو والشراب، وألا يشم طيبًا، ولا يدهن بدهن حتى يقتل بكل عضو من كليب رجلًا من بني بكر بن وائل؛ لكنه نزل على رأي قومه بأن يفاوض خصومه قبل قتالهم، فأذن لوفد منهم بأن يقصد "مرة" والد جساس. فاتصل به الوفد وخيره بين ثلاث خصال: إما أن يدفع إليهم بجساس ليقتل بكليب، أو بهمام أخي جساس؛ لأنه عدل لكليب، أو أن يقيد من نفسه. فرفض مرة كل هذه العروض قائلًا: أما جساس فغلام حديث السن، ركب رأسه فهرب فلا علم لي به، وأما همام فأبو عشرة وأخو عشرة ولو دفعته إليكم لصيح بنوه في وجهي، وقالوا: دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره؟ وأما أنا فلا أتعجل الموت، وهل تزيد الخيل على أن تجول جولةً فأكون أول قتيل؟ وهل لكم في غير ذلك؟ هؤلاء بني، فدونكم أحدهم فاقتلوه به، وإن شئتم فلكم ألف ناقة. فغضبوا وقالوا: إنا لم نأتك لترذل لنا بنيك. وتفرقوا، وكان لا بد من نشوب الحرب، وقد دامت حوالي أربعين سنةً، حدثت فيها ست معارك كبيرة، آخرها يوم تحلاق اللمم، وانتهت بوساطة ملك الحيرة المنذر بن ماء السماء الذي أدى تدخله بين الفريقين إلى صلح عقد بينهما. وقيل: بوساطة الحارث بن عمرو الكندي. 41 وفي جملة الأيام التي يدخلها أهل الأخبار في حرب البسوس: يوم النهي، ويوم الذنائب، ويوم واردات، ويوم عنيزة، ويوم القصيبات، ويوم تحلاق اللمم. 42
من الحروب التي وقعت بين العدنانيين ما كان بين ربيعة وتميم، ومن أشهرها يوم الوقيط، وتفصيله فيما يلي.
كان من حديثه أن اللّٰهازم تجمعت، وهي قيس وتيم اللات ابنا ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ومعها عجل بن لجيم وعنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار؛ لتغير على بني تميم وهم غارون. فرأى ذلك الأعور وهو ناشب بن بشامة العنبري، وكان أسيرًا في قيس بن ثعلبة. فقال لهم: أعطوني رجلا أرسله إلى أهلي أوصيهم ببعض حاجتي. فقالوا له: ترسله ونحن حضور؟ قال: نعم، فأتوه بغلام مولد. فقال: أتيتموني بأحمق! فقال الغلام: واللّٰه ما أنا بأحمق. فقال: إني أراك مجنونا. قال: واللّٰه ما بي جنون. قال: أتعقل؟ قال: نعم، إني لعاقل. قال: فالنيران أكثر أم الكواكب؟ قال: الكواكب، وكل كثيرة. فملأ كفه رملًا، وقال: كم في كفي؟ قال: لا أدري، فإنه لكثير، فأومأ إلى الشمس بيده، وقال: ما تلك؟ قال: الشمس. 43
ثم قال: ما أراك إلا عاقلا ظريفا، اذهب إلى أهلي، فأبلغهم عني التحية والسلام، وقل لهم: ليحسنوا إلى أسيرهم ويكرموه، فإني عند قوم يحسنون إلي، ويكرموني، وقل لهم: فليعروا جملي الأحمر، وبركوا ناقتي العيساء، بآية ما أكلت معهم حيسًا، وليرعوا حاجتي في أبيني مالك، وأخبرهم أن العوسج قد أورق، وأن النساء قد شكت، وليعصوا همام بن بشامة، فإنه مشؤوم محدود، وليطيعوا هذيل بن الأخنس، فإنه حازم ميمون. فقال له بنو قيس: من أبينو مالك؟ قال: بنو أخي، فأتاهم الرسول، فأخبرهم وأبلغهم، فلم تدر عمرو بن تميم ما الذي أرسل به إليهم الأعور. وقالوا: ما نعرف هذا الكلام، ولقد جن الأعور بعدنا، ما نعرف له ناقةً يختصها ولا جملًا، وإن إبله عندنا لبأج واحد فيما نرى. 44 ومضى الرسول، فقال رجل من بني العنبر: ويحكم! واللّٰه إنه يقول حقًا لو فهمتم. أما الرمل الذي قبض عليه، فإنه يقول: أتاكم عدوكم كعدد الرمل. وأما إشارته إلى الشمس فإنه قال: يوافونكم عند طلوع الشمس. وأما الجمل الأصهب فهو الصمان، والناقة العيساء هي للدهناء، وهو يأمركم أن تحترزوا فيها. وأما بنو مالك فهو يأمركم أن تنذروهم، وأن تتمسكوا بالحلف الذي بينكم وبينهم. وأما العوسج فيقول: إنهم قد لبسوا السلاح. وأما اشتكاء النساء فيقول: قد عملن لهم كل ما يحتاجون إليه حتى أسقية الماء. وأما همام بن بشامة فكان جبانا يأمرهم بالقعود، وهذيل بن الأخنس كان حازما يأمرهم بالرحيل، وأنذرت بنو عمرو بني مالك، فخالفوهم، وقالوا: ما ندري ما يقول صاحبكم، وما نحن بمتحولين. 45
ثم إن اللّٰهازم وعجلا وعنزة أتوا بني حنظلة فوجدوا عمرا قد أجلت، فأوقعوا ببني دارم بالوقيط، فاقتتلوا قتالا شديدا، وعظمت الحرب بينهم، فأسرت ربيعة جماعة من رؤساء بني تميم، منهم ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة فجزوا ناصيته وأطلقوه، وأسروا عثجل بن المأمون بن زرارة، وجويرة بن بدر بن عبد اللّٰه بن دارم، وأسر أيضا نعيم وعوف ابنا القعقاع بن معبد بن زرارة، وغيرهما من سادات بني تميم، وقتل حكيم بن جذيمة بن الأصيلع النهشلي، ولم يشهدها من نهشل غيره، وعادت بكر فمرت بطريقها بعد الوقعة بثلاثة نفر من بني العنبر لم يكونوا ارتحلوا مع قومهم، فلما رأوهم طردوا إبلهم فأحرزوها من بكر، وأكثر الشعراء في هذا اليوم، فمن ذلك قول أبي مهوش الفقعسي يعير تميمًا بيوم الوقيط:
فما قاتلت يوم الوقيطين نهشل
ولا الأنكد الشؤمى فقيم بن دارم
ولا قضبت عوف رجال مجاشع
ولا قشر الأستاه غير البراجم.46
هو موضع فيه ماء، يسمى الكلاب، وكان من حديثه أن الحوفزان وهو الحارث بن شريك أغار على من بالقاعة من بني سعد بن زيد مناة، فأخذ نعمًا وشاءً، وأخذ الزرقاء من بني ربيع بن الحارث، فأعجب بها، وأعجبت به، فلم يتمالك أن وقع عليها، فلما انتهى إلى جدود منعته بنو يربوع أن يرد الماء، ورئيسهم عتيبة بن الحارث بن شهاب فقاتلهم، فلم يكن له بهم طاقة، فصالحهم على أن يعطيهم بعض الغنائم، وورد الماء، وأجازوه ومن معه من بكر، وبلغ قيس بن عاصم فركب في آثارهم، فأدركه قيس وقد أردف الزرقاء خلفه على فرسه، وعقد شعرها بصدره. فناداه قيس: يا أبا حمار، أنا لك خير من البيداء والعطش، فقطع قرون الزرقاء وألقاها عن الفرس، وأدركه قيس، فطعنه فأصاب وركه، ومضى، فمات بعد أيام. ورد قيس الزرقاء إلى بني ربيع.47 وفيه يقول سوار بن حيان المنقري:
ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة
سقته نجيعا من دم الجوف أشكلا.48
إلى جانب ذلك وقعت بين ربيعة وتميم أيام أخرى، منها يوم ثيتل، ويوم زرود، ويوم ذي طلوح، ويوم الإياد، ويوم الغبيط، ويوم قشادة، ويوم زبالة، ويوم مبايض، ويوم زوربن، ويوم عاقل، ويوم شيطين، ويوم الوقبى، ويوم الشباك وغيرها.
أما الحروب التي جرت بين قبائل قيس، فمنها المعروفة باسم يوم داحس والغبراء.
يوم حدث في أواسط شبه الجزيرة العربية بين قبيلتي عبس وذبيان المتفرعتين من غطفان، وقد جاء توقيته بعد انتهاء حرب البسوس بزمن قليل. وكان السبب في وقوعه خلاف على سباق خيل بين أفراس لحذيفة بن بدر بن فزارة سيد ذبيان، وأخرى لقيس بن زهير بن جذيمة سيد عبس، الذي يصفه الأخباريون بسداد الرأي والحنكة، وقد عرف باسم قيس الرأي. ويروون عنه حكمًا ونصائح، وبخاصة ما قاله في مناسبات هذه الحرب. وخلاصة الحادثة أن قيسا وقومه نزلوا في جوار حذيفة وحيه لنسب يربط بينهما، وكان لقيس أفراس لم يكن في العرب مثلها، فحسده حذيفة عليها، ولم يلبث أن كره جواره وأراد إخراجه فلم يجد حجةً لذلك، ثم إنه قد جره إلى رهان على سباق بين فرسين لقيس ذكر وأنثى، هما داحس والغبراء، ومثلهما له وهما الخطار والحنفاء. 49
لما أدرك حذيفة إخفاق أفراسه في السباق عمد إلى استغلال حيلة قد دبرها لإعاقة خيل قيس عن الجري وأدركها قيس، فاختلف الطرفان، وكل منهما ادعى السبق لأفراسه. ورفض حذيفة أن يؤدي الرهان وقدره عشرون ناقة، وانتهى النزاع إلى حرب استمرت طويلًا، كثرت وقائعها وكانت متفرقةً، قتل فيها حذيفة وعدة رؤساء، وامتدت حتى بزوغ فجر الإسلام، ولم تنته إلا بتوسط الرؤساء، حيث سويت بدفع فضل الديات من الطرف الذي كانت قتلاه أقل من قتلى الطرف الآخر، وتمتاز هذه الحروب بكون وقائعها قد تعددت، وبكونها شملت قبائل غير عبس وذبيان، وهي شيبان وضبة وأسد وقبائل أخرى، وبأنها قد اقترنت بشهرة بطل مغوار وشاعر مشهور هو عنترة بن شداد العبسي الذي طغت شهرة قصته على قصة داحس والغبراء، وكان للشاعر زهير بن أبي سلمى ذكر فيها. 50 وكانت في قيس أيام أخرى أيضًا، منها يوم منعج، ويوم نفراوات، ويوم بطن عاقل، يوم الرقم، ويوم النتاءة، ويم حوذة الأول، يوم حوذة الثاني، يوم اللوى، وحديث ابن الصبا، ويوم هراميت، وغيرها.
كانت في أيام العرب حروب وقعت بين قيس وكنانة، وأولها يوم الفجار الأول.
كان الفجار الأول بين قريش ومن معها من كنانة كلها وبين قيس عيلان، وسببه أن رجلًا من كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، فأعدم الكناني، فوافى النصري سوق عكاظ بقرد، وقال: من يبيعني مثل هذا بما لي على فلان الكناني؟ فعل ذلك تعييرًا للكناني وقومه، فمر به رجل من كنانة فضرب القرد بالسيف، فقتله أنفةً مما قال النصري. فصرخ النصري في قيس، وصرخ الكناني في كنانة. فاجتمع الناس وتحاوروا حتى كاد يكون بينهم القتال ثم اصطلحوا. وقيل: كان سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر وهي وضيئة عليها برقع. فقالوا لها: اسفري؛ لننظر إلى وجهك. فلم تفعل. فقام غلام منهم، فشك ذيل درعها إلى ظهرها ولم تشعر. فلما قامت انكشفت دبرها. فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهك، فقد نظرنا إلى دبرك. فصاحت المرأة: يا بني عامر، فضحت! فأتاها الناس واشتجروا حتى كاد يكون قتال، ثم رأوا أن الأمر يسير فاصطلحوا. وقيل: بل قعد رجل من بني غفار يقال له أبو معشر بن مكرز، وكان عازمًا منيعًا في نفسه، وكان بسوق عكاظ. فمد رجله ثم قال: نحن بنو مدركة بن خندف، من يطعنوا في عينه لا يطرف، ومن يكونوا قومه يغطرف كأنه لجة بحر مسدف، أنا واللّٰه أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف. فقام رجل من قيس، يقال له أحمر بن مازن، فضربها بالسيف فخرشها خرشًا غير كثير، فاختصم الناس ثم اصطلحوا. 51
أما حروب الفجار الثاني فهي خمسة أيام، قد وقعت بعد عشرين سنةً من عام الفيل، أي: حوالي عام تسعين وخمسائة للميلاد، وذلك في حياة الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم قبل بعثته، ولم يكن في أيام العرب أشهر منها، وأشهرها وأهمها اليوم الأول الذي يسمى يوم نخلة.
من حديثها كان النعمان بن المنذر قد بعث إلى سوق عكاظ إذ ذاك بلطيمة يجيزها له سيد مضر، فتباع ويتشرى له بثمنها الأدم والحرير والوكاء والبرود من العصب والوشي والمسير والعدني، وكانت سوق عكاظ في أول ذي القعدة، فلا تزال قائمة يباع فيها ويشترى إلى حضور الحج، وجهز النعمان لطيمة وقال: من يجيزها؟ فقال البراض: أنا أجيزها على بني كنانة. فقال النعمان: إنما أريد رجلا، يجيزها على أهل نجد. فقال عروة الرحال -وهو يومئذ رجل هوازن- أكلب خليع يجيزها لك؟ أبيت اللعن! أنا أجيزها لك على الشيخ والقيصوم في أهل نجد وتهامة. فقال له البراض: أعلى بني كنانة تجيزها يا عروة؟ فقال عروة: وعلى الناس جميعًا. فدفعها النعمان إلى عروة، وخرج بها، وتبعه البراض، وعروة يرى مكانه ولا يخشاه، حتى إذا كان بأرض يقال لها أوارة، نزل عروة وشرب من الخمر، وغنته قينة ثم قام فنام، فجاء البراض فدخل عليه فناشده عروة. وقال: كانت مني زلة، وكانت الفعلة مني ضلة؛ ولكن البراض قتله وهرب عضاريط الإبل، واستاق البراض اللطيمة إلى خيبر، وتبعه رجلان من قيس ليأخذاه، أحدهما من غني، والآخر من غطفان، ولما وصلا إلى خيبر كان البراض أول من لقيهما، فقال لهما: من الرجلان؟ قالا: من قيس، واحد من غطفان والآخر من غني. فقال البراض: وما شأن غطفان وغني بهذه البلدة؟ فقالا: ومن أنت؟ فقال: من أهل خيبر، قالا: ألك علم بالبراض بن قيس؟ فقال: دخل علينا طريدًا خليعًا فلم يؤوه أحد من خيبر، ولا أدخله بيتًا. قالا: فأين يكون؟ فقال: وهل لكما به طاقة إن دللتكما عليه؟ قالا: نعم. قال: فانزلا، واعقلا راحلتيكما. ففعلا. ثم قال: فأيكما أجرأ عليه، وأمضى مقدمًا، وأحد سيفًا؟ فقال الغطفاني: أنا. قال البراض: فانطلق، أدلك عليه، ويحفظ صاحبك راحلتيكما. ففعل، وانطلق البراض يمشي بين يدي الغطفاني حتى انتهى إلى خربة في جانب خيبر، خارجة عن البيوت. فقال البراض: هو في هذه الخربة، وإليها يأوي، فأنظرني حتى أنظر أهو فيها أم لا؟ فوقف له ودخل البراض. ثم خرج إليه، وقال: هو نائم في البيت خلف الجدار عن يمينك إذا دخلت، فهل عندك سيف فيه صرامة؟ قال: نعم. قال: هات سيفك، أنظر إليه أصارم هو؟ فأعطاه إياه. فهزه البراض ثم ضربه به حتى قتله، ووضع السيف خلف الباب، وأقبل على الغنوي. فقال له: ما وراءك؟ قال: لم أر أجبن من صاحبك، تركته قائما في الباب الذي فيه الرجل، والرجل نائم، لا يتقدم إليه ولا يتأخر عنه. فقال الغنوي: يالهفاه! لو كان أحد ينظر راحلتينا؟ فقال البراض: هما علي إن ذهبت، وانطلق الغنوي والبراض خلفه، حتى إذا جاوز الغنوي باب الخربة أخذ البراض السيف من خلف الباب، ثم ضربه حتى قتله، وأخذ سلاحيهما وراحلتيهما وانطلق. ولقي البراض بشر بن أبي حازم، فقال له: هذه القلائص لك على أن تأتي حرب بن أمية وعبد اللّٰه بن جدعان وهشاما والوليد ابني المغيرة، فتخبرهم أن البراض قتل عروة؛ فإني أخاف إن يسبق الخبر إلى قيس أن يكتموه حتى يقتلوا به رجلا من قومك عظيما. فقال له: وما يؤمنك أن تكون أنت ذلك القتيل. قال: إن هوازن لا ترضى أن تقتل بسيدها رجلا خليعا مثلي. 52
فخرج الأسدي حتى أتى عكاظ، وبها جماعة من الناس، فأتى حرب بن أمية فأخبره الخبر، فبعث إلى عبد اللّٰه بن جدعان التيمي وإلى هشام بن المغيرة المخزومي، وهو والد أبي جهل، وهما من أشراف قريش، وذوي السن منهم، وإلى كل قبيلة من قريش أحضر منها رجلا، وإلى الحليس بن يزيد الحارثي، وهو سيد الأحابيش، فأخبرهم أيضًا. فتشاوروا، وقالوا: نخشى من قيس أن يطلبوا ثأر صاحبهم منا؛ فإنهم لا يرضون أن يقتلوا به خليعا من بني ضمرة. فاتفق رأيهم على أن يأتوا أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب ملاعب الأسنة، وهو يومئذ سيد قيس وشريفها، فيقولوا له: إنه قد كان حدث بين نجد وتهامة، وإنه لم يأتنا علمه فأجز بين الناس حتى تعلم. فأتوه، وقالوا له ذلك، فأجاز بين الناس وأعلم قومه ما قيل له، ثم قام نفر من قريش، فقالوا: يا أهل عكاظ، إنه قد حدث في قومنا بمكة حدث، أتانا خبره، ونخشى إن تخلفنا عنهم أن يتفاقم الشر، فلا يروعنكم تحملنا، ثم ركبوا على الصعب والذلول إلى مكة، فلما كان آخر اليوم أتى عامر بن مالك ملاعب الأسنة الخبر. فقال: غدرت قريش، وخدعني حرب بن أمية، واللّٰه، لا تنزل كنانة عكاظ أبدًا. ثم ركبوا في طلبهم حتى أدركوهم بنخلة فاقتتل القوم، فاشتعلت قريش فكادت قريش تنهزم إلا أنها على حاميتها تبادر دخول الحرم ليأمنوا به، فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا الحرم مع الليل، وكان رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم معهم، وعمره عشرون سنةً، ولما دخلت قريش الحرم عادت عنهم قيس، وقالوا لهم: يا معشر قريش، إنا لا نترك دم عروة، وميعادنا عكاظ في العام المقبل، وانصرفت إلى بلادها يحرض بعضها بعضا، ويبكون عروة الرحال، ثم إن قيسًا جمعت جموعها، ومعها ثقيف وغيرها، وجمعت قريش جموعها، منهم كنانة جميعها والأحابيش وأسد بن خزيمة، وفرقت قريش السلاح في الناس، وكان على جماعة الناس حرب بن أمية لمكانه من عبد مناف سنًا ومنزلةً. 53
فسارت قريش حتى نزلت عكاظ وبها قيس، وكان مع حرب بن أمية إخوته: سفيان وأبو سفيان والعاص وأبو العاص بنو أمية، فعقل حرب نفسه وقيد سفيان وأبو العاص نفسيهما وقالوا: لن يبرح رجل منا مكانه حتى نموت أو نظفر، فيومئذ سموا العنابس، والعنبس الأسد، واقتتل الناس قتالًا شديدًا، فكان الظفر أول النهار لقيس، وانهزم كثير من بني كنانة وقريش، فانهزم بنو زهرة وبنو عدي، وقتل معمر بن حبيب الجمحي، وانهزمت طائفة من بني فراس، وثبت حرب بن أمية وبنو عبد مناف وسائر قبائل قريش، ولم يزل الظفر لقيس على قريش وكنانة إلى أن انتصف النهار، ثم عاد الظفر لقريش وكنانة فقتلوا من قيس فأكثروا، وحمي القتال واشتد الأمر، فقتل يومئذ تحت راية بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة مئة رجل وهم صابرون، فانهزمت قيس، وقتل من أشرافهم عباس بن زعل السلمي وغيره. فلما رأى أبو السيد عم مالك بن عوف النصري ما تصنع كنانة من القتل نادى: يا معشر بني كنانة، أسرفتم في القتل. فقال ابن جدعان: إنا معشر يسرف. ولما رأى سبيع بن ربيع بن معاوية هزيمة قبائل قيس عقل نفسه واضطجع، وقال: يا معشر بني نصر، قاتلوا عني أو ذروا، فعطفت عليه بنو نصر، وجشم، وسعد بن بكر، وفهم، وعدوان، وانهزم باقي قبائل قيس. فقاتل هؤلاء أشد قتال رآه الناس، ثم إنهم تداعوا إلى الصلح، فاصطلحوا على أن يعدوا القتلى، فأي الفريقين فضل له قتلى أخذ ديته من الفريق الآخر، فتعادوا القتلى، فوجدوا قريشا وبني كنانة، قد أفضلوا على قيس عشرين رجلًا، فرهن حرب بن أمية يومئذ ابنه أبا سفيان في ديات القوم حتى يؤديها ورهن غيره من الرؤساء، وانصرف الناس بعضهم عن بعض، ووضعوا الحرب، وهدموا ما بينهم من العداوة والشر، وتعاهدوا على أن لا يؤذي بعضهم بعضًا فيما كان من أمر البراض وعروة. 54
ذهب بعض المؤرخين إلى أن حرب الفجار الأولى تحتوي على أيام، الأول والثاني والثالث، وما ذكرناه من الثاني فهو في هذا التقسيم يوم الفجار الرابع. وإلى جانب ذلك كانت بين قيس وكنانة حروب أخرى أيضًا، منها: يوم الكديد، ويوم برزة، ويوم نخلة، ويوم شمطة، ويوم عبلاء، ويوم عكاظ، ويوم حريرة.
وكذلك وقعت الأحداث بين قيس وتميم، ومن أشهرها يوم رحرحان.
وهو يوم وقع في أعقاب قتل الحارث بن ظالم المري خالد بن جعفر الكلابي. وكان سببه أن قوم الحارث بن ظالم أنكروا عليه فعله، ولاموه على عمله، فتجنبهم وهرب منهم، ولحق بتميم فأجاروه. فاستاءت بنو عامر من ذلك، وطلبت من بني تميم تسليم الحارث إليهم. فلما أبوا جاءت بنو عامر تريد مباغتة تميم، وكانت تميم قد علمت بمسيرها إليهم، فأرسلوا بما عندهم من أثقال وأهل إلى بلاد بني بغيض. ولما كانوا في موضع رحرحان، التقوا ببني عامر ورئيسهم الأحوص، فدارت الدائرة على بني تميم، وأسر منهم معبد بن زرارة، أسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب، وشاركهما في أسره رجل من غني يقال له: أبو عميرة عصمة بن وهب، وكان أخا طفيل من الرضاعة، وفي أسرهم مات معبد، شدوا عليه القد، وبعثوا به إلى الطائف؛ خوفا من بني تميم أن يستنقذوه. وأخذ لقيط بن زرارة يستعد ويجمع العدة، لينتقم من بني عامر، وليأخذ منهم بثأر أخيه معبد الذي أسر في يوم رحرحان، ثم هلك لمنع بني عامر الماء عنه، فذهب إلى النعمان بن المنذر وأطعمه في الغنائم، فأجابه. ثم ذهب إلى الجون الكلبي ملك هجر، فأجابه أيضًا، ثم توجّه إلى كل من عرف بعدائه لبني عامر وعبس، فأوغر صدره عليهم، ومناه بالغنيمة والنصر، فانضمت إليه بنو ذبيان لعدائها لعبس بسبب حرب داحس والغبراء، وبنو أسد للحلف الذي كان بينهم وبين بني ذبيان، فلما مضى الحول على يوم رحرحان، انهالت الجيوش على لقيط، فوصل جيش الجون الكلبي وعليه عمرو ومعاوية ابناه، ووصل جيش النعمان، وعليه أخوه لأمه حسان بن وبرة الكلبي. وأقبل الحليفان: أسد وذبيان، وعليهم حصن بن حذيفة، وأقبل شرحبيل بن أخضر بن الجون بن آكل المرار في جمع من بني كندة، وسار سادات تميم: حاجب بن زرارة، ولقيط بن زرارة، وعمرو بن عمرو، والحارث بن شهاب، ومعهم أحلافهم ومن انضم إليهم، يقصدون بني عامر، فنتج عن ذلك جمع لم يكن في الجاهلية أكثر منه، وعرفت بنو عامر بمجيء الجمع، فاستعدت له وتحصنت في شعب جبلة، أخبرها بذلك كرب بن صفوان السعدي، وكان شريفًا من أشراف قومه لم يخرج مع الجمع، فخافوا من تخلفه عنهم، وعرفوا أنه دبر في ذلك أمرًا، وأنه يقصد إخبار بني عامر. فأخذوا عليه العهد بألا يفشي من سر مسيرهم هذا لبني عامر، وقد سار كرب بن صفوان إلى بني عامر، وأظهر لهم علائم هجوم بني تميم عليهم، دون أن يقول لهم شيئًا عنه؛ لئلا يخلف وعده، فعرفوا به، واستعدوا له، وبينما كان القوم على وشك الوصول إلى ديار بني عامر، عادت بنو أسد فغيرت رأيها من الاشتراك في هذا الهجوم، ورجعت عنهم، ولم يسر مع لقيط منهم إلا نفر يسير، ولما وصل بنو تميم وأحلافهم إلى شعب جبلة، كان بنو عامر على أتم استعداد للقاء، وقد احتموا في مواضع منيعة حصينة من الشعب، ولما دخلوه يريدون الفتك ببني عامر وعبس، باغتهم هؤلاء بهجوم مفاجئ أفسد عليهم خطط قتالهم، فارتدوا مذعورين تتعقبهم سيوف بني عامر، فكانت هزيمة فادحة نزلت بتميم وممن كان معهم من الأحلاف كلفت لقيطًا حياته، وأوقعت حاجبًا في الأسر، وأوقعت غيره في الأسر كذلك، وقد وقع هذا اليوم في عام مولد النبي صلى اللّٰه تعالى عليه وسلم على بعض الروايات، أي: سنة سبعين وخمسمائة للميلاد، وبعد عام من يوم الرحرحان. 55 ومن أيام قيس وتميم يوم شعب جبلة وذي نجب والصرائم والرغام جزع ظلال والمروت وغيرها.
ومن أيام القبائل العدنانية أيام اشتهرت بأيام ضبة، ومن أبرزها يوم نسار، تفصيله فيما يلي.
النسار أجبل متجاورة، وعندها كانت الوقعة، وهو موضع معروف عندهم، وكان سبب ذلك اليوم أن بني تميم بن مر بن أد كانوا يأكلون عمومتهم ضبة بن أد وبني عبد مناة بن أد. فأصابت ضبة رهطًا من تميم، فطلبتهم تميم، فانزاحت جماعة الرباب، وهم تيم، وعدي، وثور أطحل، وعكل بنو عبد مناة بن أد وضبة بن أد. وإنما سموا الرباب؛ لأنهم غمسوا أيديهم في الرب حين تحالفوا، فلحقت ببني أسد، وهم يومئذ حلفاء لبني ذبيان بن بغيض، فنادى صارخ بن ضبة: يا آل خندف، فأصرختهم بنو أسد، وهو أول يوم تخندفت فيه ضبة واستمدوا حليفهم طيئا وغطفان، فكان رئيس أسد يوم النسار عوف بن عبد اللّٰه بن عامر بن جذيمة بن نصر بن قعين. وقيل: خالد بن نضلة، وكان رئيس الرباب الأسود بن المنذر أخو النعمان. وليس بصحيح. وكان على الجماعة كلهم حصن بن حذيفة بن بدر، فلما بلغ بني تميم ذلك استمدوا بني عامر بن صعصعة، فأمدوهم، وكان حاجب بن زرارة على بني تميم، وكان عامر بن صعصعة جوابًا، وهو لقب مالك بن كعب من بني أبي بكر بن كلاب؛ لأن بني جعفر كان جواب قد أخرجهم إلى بني الحارث بن كعب فحالفوهم. وقيل: كان رئيس عامر شريح بن مالك القشيري. وسار الجمعان، فالتقوا بالنسار، واقتتلوا، فصبرت عامر، واستحر بهم القتل، وانفضت تميم، فنجت ولم يصب منهم كثير. وقتل شريح القشيري رأس بني عامر، وقتل عبيد بن معاوية بن عبد اللّٰه بن كلاب وغيرهما، وأخذ عدة من أشراف نساء بني عامر، منهن سلمى بنت المخلف، والعنقاء بنت همام وغيرهما. 56 وكانت من أيام ضبة، يوم الشقيقة، ويوم بزاخة، ويوم دارة، مأسل، ويوم النقيمة وغيرها.
كما وقعت في العصر الجاهلي حروب خارجية، حدثت بين العرب والفرس، منها يوم الصفقة، تفصيله فيما يلي.
أما يوم الصفقة وسببه فإن باذان -نائب كسرى أبرويز بن هرمز باليمن- أرسل إليه حملا من اليمن، فلما بلغ الحمل إلى نطاع من أرض نجد أغارت تميم عليه، وانتهبوه وسلبوا رسل كسرى وأساورته، فقدموا على هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة مسلوبين، فأحسن إليهم وكساهم، وقد كان قبل هذا إذا أرسل كسرى لطيمة تباع باليمن، يجهز رسله ويخفرهم ويحسن جوارهم. وكان كسرى يشتهي أن يراه ليجازيه على فعله، فلما أحسن أخيرًا إلى هؤلاء الرسل الذين أخذتهم تميم. قالوا له: إن الملك لا يزال يذكرك، ويؤثر أن تقدم عليه، فسار معهم إليه، فلما قدم عليه أكرمه وأحسن إليه، وجعل يحادثه لينظر عقله، فرأى ما سره، فأمر له بمال كثير، وتوجّه بتاج من تيجانه وأقطعه أموالا بهجر، وكان هوذة نصرانيًا، وأمره كسرى أن يغزو هو والمكعبر مع عساكر كسرى بني تميم، فساروا إلى هجر ونزلوا بالمشقر، وخاف المكعبر وهوذة أن يدخلا بلاد تميم؛ لأنها لا تحتملها العجم وأهلها بها ممتنعون، فبعثا رجالا من بني تميم يدعونهم إلى الميرة، وكانت شديدة، فأقبلوا على كل صعب وذلول، فجعل المكعبر يدخلهم الحصن خمسة خمسة وعشرة عشرة وأقل وأكثر، يدخلهم من باب على أن يخرجهم من آخر، فكل من دخل ضرب عنقه، فلما طال عليهم ورأوا أن الناس يدخلون ولا يخرجون بعثوا رجالًا يستعلمون الخبر، فشد رجل من عبس فضرب السلسلة، فقطعها وخرج من كان بالباب، فأمر المكعبر بغلق الباب وقتل كل من كان بالمدينة، وكان يوم الفصح، فاستوهب هوذة منه مئة رجل فكساهم وأطلقهم يوم الفصح، فصار يوم المشقر مثلًا، وهو يوم الصفقة إصفاق الباب، وهو إغلاقه، وكان يوم الصفقة وقد بعث النبي صلى اللّٰه عليه وآله وسلم وهو بمكة بعد لم يهاجر، وكذا كان من أيام العرب والفرس يوم ذي قار أيضًا. 57
أما نتائج تلك الحروب فلا تختلف عن النتائج التي تنشأ عادةً عن مثيلاتها من الحروب، كاستحكام الضعف في القبائل العربية، وإشاعة الفرقة فيما بينها، واستمرار تفكك العرب وإمعان الدول الأجنبية في التحكم بهم، وفرض نفوذها الاستعماري على أغلب مناطقهم القريبة منها. 58 ولكن ثمة ثورة عظيمة حدثت، حولت ضعفهم إلى قوتهم، وفرقتهم إلى وحدتهم، ألا وهي بعثة النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في جزيرة العرب، فالعرب الذين كانوا يدخلون في معارك حاسمة تستمر إلى سنين لأمور تافهة، ويتفرقون ويعادون، نظمهم الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم في سلك الوحدة والأخوة، فدخلوا تحت رأية الإسلام وأصبحوا إخوانًا إلى أبد الآباد، فبرزوا إلى العالم بعد اجتياحهم الإمبراطوريتين، الفارسية والرومية، كالوحدة العربية والأمة الإسلامية.
إن للعرب في الأيام الحاضرة كثرة، فإن تضامنوا وتحالفوا مع مسلمي العالم شرقًا وغربًا، وشمروا لقيادة الأمة الإسلامية وسيادتها فلا تضارعهم أمة من أمم العالم مهما بلغت من العدة والعدد، وإن أهلياتهم الحربية التي وجهها الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم إلى طريق صحيح استخدامًا لها في سبيل اللّٰه وإعلاء كلمته، قد ضاعت بمكايد الأعداء في المناوشات والمحاربات فيما بينهم، فإن أمم العالم على معرفة تامة من أن حماستهم الحربية وبطولاتهم التي هي جزء لا ينفك عن تاريخهم، إن استخدمت في سبيل الدفاع عن الإسلام والمسلمين فما استطاعت أية أمة ولا ملة أن تعاديهم وتضارعهم، ولذلك لا يزال أعداء الإسلام والمسملين يشغلون العرب في الملذات المالية والرغبات الترفيهية والمخالفات الداخلية، ويذهبون بأبنائهم إلى الدول الغربية باسم التعليم العالي وتكون أذهانهم وأفكارهم حسب ما يريدون بل يقلبون شخصياتهم وماهياتهم عن الفكر الإسلامي إلى الفكر الغربي، فقد غفلوا عن مقصدهم الأصلي والغرض الأساسي وهو الجهاد في سبيل اللّٰه حتى أن القوات العدائية قد تستمع بمواردهم المادية والمالية.